فهنا يدعي المتنبي أن ممدوحه قد تناهى في الصفات الفاضلة إلى حد صار به جنسًا منفردًا بذاته أشرف من جنس الإنسان، وهو في الواقع منهم، وهذه دعوى بعيدة غريبة، تحتاج إلى بيان إمكانها، وإثبات أن لها نظيرًا في الموجودات الثابتة؛ ولذا قال: فإن المسك بعض دم الغزال. وعلى الرغم من أنه من جنس الدماء -أي: المسك- إلا أنه تناهى في الصفات الشريفة إلى حد يُتوهم لأجله أنه نوع آخر غير الدم؛ لتفوقه بشرف رائحته، والتشبيه كما هو ملاحظ في البيت ضمني، المشبه حال الممدوح في تفوقه على أهل زمانه تفوقًا صار به كأنه جنس منفصل عنهم، شبه به حال المسك في تفوقه بشرف رائحته على الدماء حتى صار كأنه جنس آخر، ووجه الشبه خروج بعض أفراد الجنس بفضائله عن جنسه مع ملاحظة الأصل في بقائه داخل الجنس بالانتساب إليه، والغرض من التشبيه -كما علمنا- هو بيان إمكان المشبه بإثبات نظير له، كما هو واضح في البيت، يدخل في هذا الغرض ما جاء في قول البحتري:
دانٍ على أيدي العفاة وشاسع ... عن كل ندٍّ في الندى وضريب
كالبدر أفرط في العلو وضوءه ... للعصبة السارين جد قريب
فهنا يصف الشاعر الممدوح بصفتين متناقضتين في الظاهر، وهما الدنو والعلو، ثم زال هذا التناقض الظاهري بالمشبه به الذي بيَّن أنه لما ادعاه الشاعر نظيرًا في الوجود، كذلك قول ابن الرومي يقول:
قالوا أبو الصقر من شيبان قلت لهم ... كلا لا عمرو ولكن منه شيبان
كم من أب قد علا بابن ذرا شرف ... كما علا برسول الله عدنان
فالمشبه أبو الصقر، وقد شرفت به قبيلته، وتلك دعوى غريبة؛ لأن العادة أن يشرف الفرع بالأصل، دائمًا الإنسان يشرف بأبيه وبأجداده، لا العكس، لكن