بهذا يتضح أن وجه الشبه لا بد أن يكون مشتركًا بين الطرفين، موجودًا وملاحظًا في كل منهما، إما عن طريق التحقيق، وإما عن طريق التخييل والتأول، فإذا لم يكن موجودًا وملاحظًا في كل من الطرفين؛ كان التشبيه فاسدًا ومعيبًا، فإذا جعلنا وجه الشبه في قولنا: النحو في الكلام كالملح في الطعام، أن كثرة الاستعمال مفسدة، وقلتها مصلحة؛ فسد التشبيه، لأن الوجه لا يكون بذلك محققًا للمعنى، ولا يتأتَّى تحقيقه في المشبه؛ إذن النحو لا يحتمل القلة والكثرة، فالمراد رعاية قواعده واستعمال أحكامه من رفع الفاعل، ونصب المفعول، وجر المجرور إلى غير ذلك، فإذا تحققت هذه الأحكام صلح الكلام، وإلا فسد. أما استعمال الملح في الطعام فكثيره مفسد، وقليله مصلح؛ لذا كان الوجه الجامع بين الطرفين هو الاستعمال مصلح، والإهمال مفسد، بغض النظر عن القلة والكثرة؛ إذن فلا بد لوجه الشبه أن يكون محققًا للغرض بين الطرفين، مثلًا قول الشاعر:
غيري جنى وأنا المعاقب فيكم ... فكأنني سبابة المتندم
أعابوا هذا البيت لماذا؟ قالوا: لأن وجه الشبه وهو معاقبة البريء بترك الجاني متحقق في المشبه دون المشبه به؛ لأن سبابة المتندم عندما يعضُّ عليه عند ندمه تقع العقوبة عليها؛ لذا فهي جزء، أو عندئذٍ لا يكون المعاقب غير الجاني، فالصواب في ذلك هو ما جاء في قول آخر:
حلفت فلم أترك لنفسك ريبة ... وهل يأثمًا ذو إمة وهو طائع
لكلفتني ذنب امرئ وتركته ... كذا العرِّي يُكوى غيره وهو راتع
فوجه الشبه هو معاقبة البريء، وترك الجاني موجود في كل من المشبه والمشبه به على وجه التحقيق؛ لذا كان تعبير النابغة جيدًا، وهو البيتين الأخيرين، وتشبيهه صوابًا محققًا، وكان تعبير ابن شرف القيرواني الذي سبقه ردئيًا، وتشبيهه من ثم كان معيبًا فاسد.