وقد عرف ابن الأثير الجناس: بأنه اتفاق اللفظ واختلاف المعنى، ومثَّل له بقوله -صلى الله عليه وسلم: ((أسلم سالمها الله، وغِفار غفر الله لها، وَعُصية عصت الله))، ففي الحديث ثلاثة جناسات؛ الأول: بين ((أسلم))، وهي قبيلة، و ((سالمها)) دعاء بالسلامة. والثاني: بين غِفار اسم قبيلة: ((وغفر الله لها)) دعاء لها بالغفران. والثالث بين عُصية اسم قبيلة: و ((عصت الله)) إخبار عن عصيانها لله -جل وعلا. فأنت -كما ترى- تجد في كل من هذه الجناسات طرفين تشابهت صورتهما ولفظهما، وكان بينهما نوع من الاتفاق، إلا أنهما في المعنى مختلفان.
ومن الجناس ما هو حسن، ومنه ما هو قبيح، شأن كل لون بديعي، فيجيء الجناس حسنًا رائعًا إذا قصد إلى غاية تخدم غرضَ المتكلم، كأن يخدعه عن حقيقة ما أراد وقد أعطاها له، أو يوهمه بأنه يكرر لفظًا دون فائدة، مع أن الفائدة محققة، أو يجعله يظن أنه لم يزده شيئًا مع أنه أحسن الزيادة ووفاها حقها من السماحة والقبول. كما أن الجناس يحسن ويلطف إذا كان موقع اللفظين من العقل موقعًا حميدًا، وكانت المناسبة بينهما واضحةً قريبةً، ولا تعقيدَ فيها ولا التواء. أما إذا لم يكن تحت الجناس فائدة ولم يكن ثَمة غرض يرمي إليه المتكلم، اقتصر الأمر على تكرير الكلمات والحروف دون قصد يخدم غرضه، فإن الجناس يأتي سمجًا مرذودلًا. كما أن الجناس يجيء غَثَّا قبيحًا إذا لم يقع موقعًا حسنًا من الكلام، أو كانت المناسبة بين اللفظين فيها نوع التواء، أو عدم وضوح. يقول الإمام عبد القاهر: "إنك لا تستحسن تجانسَ اللفظتين إلا إذا كان موقع معنييهما من العقل موقعًا حميدًا، ولم يكن مرمى الجامع بينهما مرمًى بعيدًا، أتراكَ استضعفتَ تجنيس أبي تمام في قوله:
ذهبت بمذهبه السماحة فالْتَوَتْ ... فيه الظنون أَمَذهب أم مُذهب