وأشكاله، وبخاصة في العصور المتأخرة. والذي يعنينا الآن أن نقف على مفهوم الجناس وأثره في المعنى، وأن نعرف أنواعه بعيدًا عن التقسيمات المملة، والتي يتداخل معظمها، ولا يجد الدارس من الوقوف عليها كبيرَ فائدةٍ. الذي يُفهم من كلام القدماء إذًا أن الجناس عندهم: اتحاد طرفيه أو تشابههما في الصورة والتلفظ مع اختلاف المعنى فيهما، ترى هذا المعنى في قول ابن الرومي:
للسود في السود آثار تركن بها ... وقعًا من البيض يثني أعين البيض
فقد جاءت كلمة "السود" في الشطر الأول مرتين، كما جاءت كلمة "البيض" في الشطر الثاني مرتين كذلك، وكلمة "السود" في الشطر الأول مع تكررها إلا أنها جاءت في المرة الأولى بمعنًى، وفي المرة الثانية بمعنًى آخر، فمعناها في المرة الأولى الليالي، ومعناها في المرة الثانية الشعر الأسود، والمعنى: أن لليالي السوداء بما تجلب من هموم آثارًا واضحة في شَعر المهموم الذي يمضي ليله ساهرًا قلقًا. فأنت تلاحظ: أن في الشطر الأول طرفين هما كلمة "السود" الأولى وهو الطرف الأول، والثانية وهو الطرف الثاني، وقد جاء الطرفان متحدين صورةً ولفظًا، إلا أن معناهما مختلف -كما ترى- وكذلك كلمة "البيض" التي جاءت في الشطر الأول مكررةً مرتين، الأولى بمعنًى، والثانية بمعنى آخر، فقد جاءت في الأولى بمعنى الشعيرات البيضاء، والثانية بمعنى الغانيات الفاتنات صُويحبات البشرة البيضاء، ومعنى هذا الشطر: أن الغانيات البيض صددن عنه؛ ظنًّا منهن أن شعره قد شاب لِكبر في سنه.
فأنت تلاحظ: أن في هذا الشطر الذي قبله طرفان؛ الأول: كلمة البيض بمعنى الشعيرات البيضاء، والثاني كلمة البيض بمعنى الغانيات الفاتنات، وقد اتحد الطرفان صورةً ولفظًا واختلفا معنًى كما هو واضح.