و"الحمل" ألفاظ مشتركة بين المعنيين المذكورين لكل منها، وبعضهم يرى غير ذلك، والصواب هو ما ذكرنا. أما التورية المهيئة فهي التي تفتقر إلى ذكر شيء قبلها أو بعدها يهيئها لاحتمال المعنيين، وإلا لم تتهيأ التورية، أو تكون التورية في لفظين أو أكثر، لولا كل منهما لَمَا تهيأت التورية في الآخر. من ذلك قول ابن سناء الملك:
وسَيْرك فينا سيرة عُمرية فروحت ... عن قلب وأفرجت عن كرب
وأظهرت فينا من سَميك سُنةً ... فأظهرت ذاك الفرض من ذلك الندب
فالفرض والندب يحتملان أن يكونا من الأحكام الشرعية، وهذا هو المعنى القريب المورى به، ويحتمل أن يكون الفرض بمعنى العطاء، والندب بمعنى الرجل السريع في قضاء الحوائج، وهذا هو المعنى البعيد المورى عنه. ولولا ذكر لفظ "السنة" لَمَا تهيأت التورية، ولما فُهِمَ من الفرض والندب الحكمان الشرعيان اللذان بهما كانت التورية. من ذلك أيضًا قول ابن الربيع:
لولا التطير بالخلاف وأنهم ... قالوا مريض لا يعود مريضًا
لقضيت نحبي في جَنابك خدمةً ... لأكون مندوبًا قضَى مفروضًا
فالمندوب يحتمل أن يكون اسم مفعول من: نَدَب الميت إذا بكاه، وهذا هو المعنى البعيد المورى عنه، والذي قصده الشاعر، ويحتمل أن يكون أحد الأحكام الشرعية وهو المعنى القريب المورى به، ولولا ذكر المفروض بعده لَمَا تنبه السامع للمعنى القريب للمندوب، ولما كانت هناك تورية، فلفظ: "مفروضًا" قد هيأ هذه التورية. ومن ذلك قول علي في الأشعس بن قيس: "إنه كان يحوك الشَّمال باليمين". فالشمال يحتمل أن يكون جمع شملة، وهو الكِساء يشتمل به، وهذا هو المعنى البعيد، ويحتمل أن يكون اليد الشمال نقيض اليمين، وهذا هو المعنى القريب. وذكر اليمين بعد الشمال هو الذي هيأ لهذه التورية.