من هنا يبدو الفرق بين ما يهيئ للتورية وبين ما يرشحها أو يبينها، فاللفظ الملائم في التورية المرشحة أو المبينة لازمٌ من لوازم المعنى، أو بصيغة أخرى خصوصيةٌ من خصوصياته، فهو لازم خاص، ويشترط فيه -كما أوضحنا- ألا يكون من الألفاظ المشتركة، وهو إما مقو للتورية المرشحة أو مبين للتورية المبينة، ولو لم يذكر هذا الملائم لصحت التورية وظلت موجودةً. أما اللفظ المهيئ فإنه إذا لم يذكر لا تكون التورية أصلًا، ولننظر في قول ابن أبي ربيعة:
أيها المنكح الثريا سهيلًا
فإننا لو غيرنا أحد اللفظين فقلنا: أيها المنكح هندًا سهيلًا، لم تكن هنالك تورية في لفظ سهيل. هذا، وتكمن بلاغة التورية في ثلاثة أمور؛ أولها: أن المعنى البعيد المراد المورى عنه يبدو من خلف المعنى القريب غير المراد في صورة حسنة لطيفة، كما يبدو وجه المرأة الحسناء من وراء البُرقُع. ثانيها: أن المخاطب يدرك من لفظ التورية في بادئ الأمر معناها القريب بسرعة إدراكه قبل البعيد، ولخفاء القرينة فيها، فإذا ما وقف على المعنى البعيد بعد ذلك، وأدركه بالتأمل، وإطالة النظر، كان له وقعه في النفوس وأثره الحسن.
الأمر الثالث: أن التورية تُمكِّن المتكلم من أن يخفي المعاني التي يخشى التصريح بها، فيوري عنها بمعانٍ أخرى تُفهم من لفظ التورية، وبهذا يدفع المحظور مع الصدق، كما رأينا في إجابة أبي بكر -رضي الله عنه- للسائل عن الرسول -صلى الله عليه وسلم- إذ قال له: "هادٍ يهديني الطريقَ". وكما هو حاصل في إجابة الرسول -صلى الله عليه وسلم- في خروجه لغزوة بدر عندما سأل سائل: مِمَّن أنتم؟ قال له -صلى الله عليه وسلم: ((من مَاء))، فقد أراد -صلوات الله عليه- أنهم مخلوقون من ماء مَهين، فورَّى عنه بقبيلة من العرب يقال لها: ماء، أو بالعراق؛ لأن ماء اسم من أسمائها.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.