وبهذا يتبين أن التورية لفظ مفرد له معنيان: إما بالاشتراك أو التواطؤ، أحد المعنيين قريب ظاهر غير مراد، آخر بعيد خفي مراد، والمتكلم يوهم السامع أول الأمر أنه يريد الأمر القريب، وعند التأمل يتضح أنه يريد المعنى البعيد. ولذا سمي هذا النوع أيضًا باسم الإيهام. وواضح من الأمثلة السابقة أن التورية تكون من ثلاثة عناصر؛ الأول: لفظ له معنيان. الثاني: معنى قريب ويسمى المُوَرَّى به. الثالث: معنى بعيد، ويسمى المُوَرَّى أو المُوَرَّى عنه.

ففي بيت: "حملناهم طرًا على الدهم" نجد لفظ الدهم له معنيان، هذا اللفظ هو العنصر الأول، والمعنى القريب لهذا اللفظ وهو الخيل هو العنصر الثاني، معناه البعيد وهو القيود الحديدية، هو العنصر الثالث، ولا بد في التورية من تفاوت المعنيين في القرب والبعد، فإن تساويَا فيهما فلا تورية، مثل كلمة جون، فإن لها معنيين أبيض وأسود، إلا أنهما متساويان في القرب والبعد ما لم تدل قرينة على أن المراد منهما، لذا فإن هذه الكلمة لا توريةَ فيها لعدم تفاوت المعنيين. وعليه، فالتورية إذا خلت من قرينة دالة على أن المراد باللفظ هو المعنى البعيد، وأن المعنى القريب ليس إلا مخفيًا وساترًا للمعنى البعيد، إذا خلت من ذلك كانت ضربًا من التعمية والإلغاز، وكلاهما قبيح، فضلًا عن كونهما ليسَا من المحسنات البديعية، فلا بد في التورية إذًا من قرينة تدل على أن المراد هو المعنى البعيد للفظ، وقد تكون هذه القرينة عقلية تفهم بقرينة المقام والأحوال، وقد تكون القرينة لفظية كما نجد ذلك في قول الشاعر -وقد مر بنا:

حملناهم طرًا على الدهم بعدما ... خلعنا عليهم بالطعان ملابسا

فإن قوله: "خلعنا" يدل على أن الحمل على الخيل، وهو نوع من التكريم غير مراد، وأن المراد هو القيود الحديدية، إذ إنها هي التي تناسب خلع الطعان عليهم ملابسا، وهي ملفوظة -كما ترى.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015