حملناهم طِرًا على الدهم بعدما ... خلعنا عليهم بالطعان ملابسا
فالتورية في لفظ "الدهم" فإن لها معنيين؛ معنى قريب غير مراد وهو الخيل، ومعنى بعيد هو المراد وهو قيود الحديد. ومثل ذلك قول سراج الدين الوراء:
أصون أديم وجهي عن أناس ... لقاء الموت عندهم الأديم
ورب الشعر عندهم بغيض ... ولو وافَى به لهم حبيب
فلفظ "حبيب" في البيت الثاني له معنيان؛ أحدهما: المحبوب وهو المعنى القريب الذي يتبادر إلى الذهن، والثاني: اسم أبي تمام، وهو حبيب بن أوس الطائي، وهذا هو المعنى البعيد الذي أراده الشاعر، وقد وَرَّى عنه بالمعنى القريب. ومن ذلك قول الله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ} (الأنعام: 60) فلفظ: {جَرَحْتُمْ} في الآية الكريمة له معنيان؛ قريب ظاهر غير مراد، وهو إحداث تمزق في الجسد، والثاني: بعيد خفي المراد، وهو ارتكاب الذنوب واقتراف المعاصي. ومن ذلك قول أبي العلاء المعري:
وحرف كنون تحت راء ولم يكن ... بدال يؤم الرسم غيره النقط
فألفاظ هذا البيت مبنية على التورية، إذ معناه: أن هذه الناقة لضعفها وهزالها قد انحنت وتقوست، وصارت شبيهةً بحرف النون في تقوسها، تحت رجل يضرب رئتيها ولا يَرفق بها في السير فهو غير دال، يؤم بها دارًا غيَّر المطر رسمها، فالمعنى القريب الظاهر غير المراد للحرف أحد حروف الهجاء، وللراء والدال الحرفان المعروفان، وللرسم رسم الأحرف وكتابتها، وللنقط تنقيط الأحرف، والمعنى البعيد لهذه الألفاظ الحرف النقط، والراء: اسم فاعل من رأى أي: ضرب الرئة، والدال اسم فاعل من دَلَى يدلو: إذا رفَق في المسير، والرسم: أثر الديار، والنقط: المطر. وتلك المعاني البعيدة هي المرادة، وقد ورَّى عنها الشاعر بالمعاني القريبة، فبدت في صورة حسنة لطيفة كما يبدو وجه الحسناء من وراء البُرقُع.