وسواء كانت القرينة عقلية أو لفظية فلا بد أن تكون خفية تعتمد على إعمال الذهن وإدارة الخاطر، فإذا كانت ظاهرة لم يكن اللفظ تورية، وهذا أحد الفروق بين المجاز والكناية، ذلك أن التورية تقوم على لفظ له معنيان -كما قلنا- أحدهما مراد، والآخر ليس مرادًا، وهو نفس ما يقوم عليه المجاز، فالمجاز لفظ مستعمل في غير معناه الحقيقي، إذًا هناك معنى موضوع له اللفظ يتبادر إلى الذهن عند سماعه وهو غير مراد، ومعنى آخر مستعمل فيه غير ما وُضِعَ له لا يتبادر إلى الذهن عند سماعه وهو المعنى المراد، وهذا القدر يتحقق في التورية كما يتحقق في المجاز، فكلاهما لفظ له معنيان، أحدهما مراد والآخر غير مراد. كما أن المجاز والتورية كليهما لا بد فيهما من قرينة تبين المراد، وهو المعنى المجازي في المجاز، والمعنى البعيد في التورية، إلا أن هذه القرينة -التي في التورية- لا بد أن تكون خفية وغير واضحة -كما سبق أن أشرنا. أما في المجاز فينبغي أن تكون واضحة ظاهرة لا خفاءَ فيها ولا غموض؛ لتمنع من إرادة المعنى الحقيقي للفظ، كما نراه في قول المتنبي:
تعرض لي السَّحاب وقد قفلنا ... فقلت: إليكِ إن معي السحاب
ففي لفظ "السحاب" الثانية استعارة، والمراد به الرجل الكريم؛ لأنه يجود بالمال كما يجود السحاب بالغيث، والقرينة قوله: "معي" وهي قرينة ظاهرة واضحة؛ لأن السحاب الذي في السماء لا يكون معه، وإنما معه الممدوح، ولذلك قال بعده:
فشم في القبة الملك المُرجى ... فأمسَك بعدما عزَم انسكابا