يثبت للناس والأرواح وللندى أفناءَ الأموال، وهذا عند التأمل ومراجعة التاريخ والوقائع والمثل والنماذج، قمةُ الفخر في هاتين الصفتين، غير أن الشاعر أعانك على هذا الاستنتاج وراح يتركك؛ لتتأمل ولتراجع ما قاله. وإنما نَفَى الظلم عن البأس في إفنائه للأرواح، ونفى العيب عن الندى في إفنائه للأموال، أي: أن ما أراد أن يوهمك بأنه ضرر ثابت للبأس والندى، عاد هو نفسه ونفى ما أثبته أولًا. ولولا البيت الثاني لبقي الوهمُ قائمًا في النفس، وإثبات البأس والسماح لنفسه ولقومه لا يكفي مطلقًا في إزاحة هذا الوهم والقضاء عليه، فكان لابد من البيان والإيضاح في البيت الثاني. ومن تأكيد المدح بما يشبه الذم قول ابن نباتة:

ولا عيب فيها غير سحر جفونها ... وأحبب بها سحارة حين تسحر

ففتاتُه لا عيبَ فيها سوى الجمال وسحر الجفون، لو عد سحر الجفون عيبًا، وكونه عيبًا محال، والملاحظ أن أداة الاستثناء المستخدمة هنا في كل ما مضى هي "غير" وهي الأداة الغالبة في معظم ما ذكر من صور هذا الباب، ولكنها ليست الأداة الوحيدة المستخدمة، فقد استخدم بعض الشعراء "سوى" في قليل مما ورد. فمن ذلك قول أبي تمام:

تنصل ربها من غير جرم ... إليك سوى النصيحة والوداد

فنفى مطلق الجرم هنا نفيًا عامًّا، ثم استثنى بـ"سوى" فأوهمك أن هناك شيئًا من الجرم، ثم جاء بعد ذلك بما ليس من الجرم في شيء وهو النصيحة والوداد، ومثل هذه الصورة التي يكون ما بعد أداة الاستثناء فيها ليس من قبيل ما يوهم الذم، وإن كانت غير مذهب ابن رشيق الذي سبق، فإن فيها إيهامًا بالذم بمجرد ذكر أداة الاستثناء، ولكنها وإن دخلت هذا الباب فإنها لا تبلغ مبلغ الصور التي يوهم فيها ما بعد أداة الاستثناء الذم. وكلما كان زمن الإيهام أطولَ كان أبلغَ؛

طور بواسطة نورين ميديا © 2015