ففي صدر البيت الأول ينفي شكوى جارته منه، والشكوى إنما تكون من أمر غير مرضي من قبل الشاكي، وأن تفعل مع جيرانك ما يرضيهم ولا يشكون منه فهذا أمر حسن تُحمد عليه، وهو من حسن الجوار الذي تدعو إليه مكارم الأخلاق وشرائع السماء. وفي هذا مدح للنفس وفخر بفعالها، فلما جاء الاستثناء "غير" أوقع في وهمك أن هناك شيئًا تشكو منه الجارة، وبالتالي فإنه يوهم أنك فعلت معها ما لا يرضيها، فلا تكون الشكوى إلا من ذلك، وهذا يقلل من مدحه لنفسه الذي بدأ به. ومع هذا الوهم الذي يتبعه ترقب ما فعله معها وانتظار خبره، واللهفة المصاحبة لذلك، يستمر في إنشاده: "إنني إذا غاب عنها بعلها" فنحن حتى هذه اللحظة لا نعرف ماذا يفعل معها حينما يغيب عنها بعلها وهو ما تشكوه منه، وقد يذهب بك الظن كل مذهب في تقدير هذا الذي يفعله مع جارته في غياب بعلها. ولكن حينما يأتي إلى نهاية البيت تعرف جوابَ الشرط وهو: "لا أزورها". وعدم زيارة الجارة في غيبة الزوج ليس من العيب في شيء، بل هو مما يتمدح به العربي قبل الإسلام؛ دلالةً على حفظ الجوار وحفظ غيبة جاره. وقد يُظن أن هذه الصورة قريبة من بيت النابعة:

ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم ... بهن فلول من قراع الكتائب

في طريقة البِناء، ونوع الخَلابة، واتجاه الظنون، وقيام الوهم، ولكن الأمر ليس كذلك، ذلك أن بيت النابغة وصل إلى مداه بمعرفة سبب فلول سيوف الممدوحين، وانتهى الأمر عند هذا الحد. ولكن الوصول إلى جواب الشرط هنا هو الذي يرفع الوهم ولكن لا يرفع الإشكال كله، وإن كان قد نفَى الوهم القائم، فعدم الزيارة لجارته قد يوهم إهمال أمرها، وعدم برها، والانصراف عن رعايتها، وقطع حبال الجوار قطعًا كاملًا، وهذا يعيبه وينتقص من قدر مدحه لنفسه وافتخاره بفعاله، على الرغم من أن نفي الزيارة في غياب البعل مدح له

طور بواسطة نورين ميديا © 2015