فما قبل لكن وصفٌ للممدوح بالجرأة والشجاعة لدى الوغى، وما بعد لكن وصف آخر بالكرم وتحقيق الرجاء. ونلاحظ أن الذي ذُكِر في البيت أداة استدراك وليس أداة استثناء. ومنه قول بديع الزمان الهمذاني:
هو البدر إلا أنه البحر زاخر ... سوى أنه الضرغام لكنه الوبل
وقول الآخر:
أخو ثقة لا تهلك الخمر ماله ... ولكنه قد يهلك المال نائله
ومن تأكيد المدح بما يشبه الذم -وهذه صورة ثالثة يأتي عليها هذا الضرب من ألوان البديع- ما يوهم ظاهره أنه ذم خالص، كقول بعضهم:
ولا عيب فيهم غير شح نسائهم ... ومن المكارم أن يكن شحاحا
فقراءة الشطر الأول لا تدل على مدح، فالشح عيب ولا خيرَ فيه، وفي القرآن الكريم: {وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (الحشر: 9) هكذا على الإطلاق لا فرق بين الرجال والنساء في ذلك، وعلى هذا يكون ما استثناه عيبًا بل عيبًا شنيعًا، وناهيك بالشح عيبًا وشناعةً، ولكن الشاعر حينما قال: "ومن المكارم أن يكن شحاحًا". مَحَا ما وقع في وهمك أولًا، وبين أن هذا من المكارم، ولولا ما جاء في الشطر الثاني لما كان الشطر الأول إلا ذمًّا خالصًا. وربما عنَى بذلك أنهن يحافظن على أموال أزواجهن فلا يسرفن في الإنفاق كما هو الشأن في المرأة، ولا يبذرن ولا يخرجن منها إلا ما أذن فيه الأزواج، فسمى ذلك شُحًّا؛ مبالغةً في صورة المحافظة على المال، وهو في الحقيقة ليس كذلك، وهذا نوع جديد غير ما مضى. ومن تأكيد المدح بما يشبه الذم قول حاتم الطائي:
وما تتشكى جارتي غير أنني ... إذا غاب عنها بعلها لا أزورها
فيبلغها خيري ويرجع أهلها ... إليها ولم تقصر علي ستورها