فإن نورد الرايات بيضًا ... ونصدرهن حمرًا قد روينا
قال أبو علي: فطابق بين الإيراد والإصدار والبياض والحمرة، ولو اتفق لعمرو بن كلثوم تقابل الرِّي بالظمأ لكان أبرعَ بيت قالته العرب في الطباق.
قال أبو علي: قد أخذه أبو الشيعي فاستوفى المعنى، فقال:
فأورده بيضًا ظماء صدورُها ... وأصدرها بالري ألوانها حمر
ولا شك أن بيت عمرو بن كلثوم أفضل من بيت ابن الشيعي في معناه، فالرايات ليست في حاجة إلى أن توصف بالظمأ؛ لأنها لا تشارك في الحرب لا طعنًا ولا ضربًا، ومع ذلك فهي ترتوي من الدماء المتطايرة هنا وهناك. والرايات من قماش، والقماش يقبل الدم ويتشربه ولا يرويه منه إلا الكثير، وأما ما أصدره ممدوح أبي الشيعي فيبدو أنه الرماح أو السيوف، وهي أدوات قتال يمكن أن توصف بالظمأ إلى الدماء؛ لأنها تباشر القتل، ومع هذا فإنها لا تقبل الدماء ولا تتشربها؛ لأنها من حديد، وقليل من الدم يغير لونها إلى الحمرة، ورقبة واحدة من رقاب الأعداء تكفي لإصدارها حمرة، وليس الأمر كذلك في الرايات.
أضِفْ إلى هذا استخدام الفعل المضارع عند عمرو بن كلثوم وهو يعني التجدد والاستمرار دلالة على تأصل هذا الأمر فيهم، وتكراره منهم، فضلًا عن سرعة إيقاع البيت الذي تجسّد له سرعة الحركة في الإيراد والإصدار، وهذا يتسق مع طبيعة الغزو والإغارة التي تعتمد على عنصر المفاجأة والبغتة، وأما في بيت أبي الشيعي فإنه استخدم الفعل الماضي وبناه على إيقاع بطيء، مما يدل على بطء الحركة في الإيراد والإصدار، وهذا يتسق مع حركة الجيوش التي ترسم الخطط، وتدرس الموقف، وتستطلع العدو، وتضلل العيون، وتلجأ إلى الحصار حينًا وإلى الصلح حينًا آخر، وإلى الانسحاب إذا دعت الضرورة.