ولم يبين الخطيب لهذا التقسيم مقياسًا دقيقًا يمكن الاهتداء به ولم يبين كذلك وجه الخفاء في أيٍّ من المثالين، والآية الكريمة سبق أن تعرض لها أسامة بن منقذ في بديعه حيث قال: وأخفى تطبيق في القرآن الكريم هو قوله تعالى: {مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَارًا}، ولم يزد على ذلك شيئًا، وأما بيت أبي تمام فقد تعرض له القاضي الجرجاني في وساطته حيث يقول: ومن أغرب ألفاظه وألطف ما وُجد منه قول أبي تمام "مها الوحش" ثم ذكر البيت، وطابق بهاتا وتلك، وأحدهما للحاضر والآخر للغائب، فكانا نقيضين في المعنى والمنزلة الضدين، ولعله أراد أن أحدهما للقريب والآخر للبعيد، فعد القريب حاضرًا والبعيد غائبًا، وممن لمح خفاء الطباق من القدماء ابن رشيق حيث يقول: وعدَّ ابن المعتز من المطابقة قول الله -عز وجل-: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاة} (البقرة: 179)، لأن معناه القتل أنفى للقتل، فصار القتل سبب الحياة وهذا من أملح الطباق وأخفاه.

خفاء الطباق إذن ليس جديدًا، وإنما هو ضارب في أعماق القدم، وهو راجع إلى أن ملمح التضاد فيه ليس واضحًا، إن المعاني المتضادة إذا ظهرت في الألفاظ المتضادة كان الطباق فيها سهل الإدراك، كما تلمحه بين الليل والنهار، والبياض والسواد، والأول والآخر، والظاهر والباطن، والصدق والكذب والموت والحياة، وما شاكل ذلك، ولكن المعاني المتضادة قد لا تظهر في الألفاظ في قول الله تعالى: {مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَارًا} لا ترى تضادًّا ظاهرًا بين: {أُغْرِقُوا} و"أدخلوا نارًا"؛ لأن الذي معنا هنا جملتان كاملتان وليستا مفردين، والمعاني المتضادة الخفية هنا مأخوذة من التراكيب، وليس من المفردات، فلا تستطيع أن تقول: أن بين أغرق وأدخل أي نوع من أنواع التضاد لا ظاهرًا ولا خفيًّا، ولكن إذا نظرت إلى التركيبين نظرة تأمل، لمحت بينهما نوعًا من التضاد؛ لأنه لولا تعلق الفعلين بمفعوليهما لما تحقق بينهما تقابل، فإن الغرق يستلزم الماء

طور بواسطة نورين ميديا © 2015