وإذا أردنا أن نبحث عن الأمر الأول فلنأخذ بعض الأمثلة البديعية؛ لنتبين هل لهذه الألوان أثر في بلاغة الأسلوب وقوته، أم ليس له مدخل فيهما؟
خذ مثلًا المبالغة التي سموها "التبليغ" في قول ابن الرومي:
لو أن بيتك يابن يوسف ممتلٍ ... إبَرًا يضيق بها فناء المنزل
وأتاك يوسف يستعيرك إبرة ... ليخيط قَد قميصه لن تفعل
وانظر إلى غرض الشاعر من وصف مهجوه بصفة البخل، ترى أن الشاعر لم يقصد وصف هذا البخيل بمجرد صفة؛ لأنها فيه مشهورة معروفة، ولكنه قصد إلى وصفه بمنتهى البخل والبلوغ في هذا الوصف أحط درجاته، فاختار من المعاني ما يؤدي هذا الغرض ويطابقه، فليس أهون من الإبر في البذل والعطاء خصوصًا إذا كانت كثيرات يضيق بها فناء المنزل، وليس أمعن في البخل والشح وأبلغ في الخِسة واللؤم من الضن بإبرة واحدة من هذا الكم الهائل من الإبر على من يستوجب حاله الإيثار والبذل لرفق الخرق وضم الممزق، ولا سيما إذا كان الطالب لهذا الشيء الحقير هو أباه يوسف، ولئن كان الشاعر مبالغًا لهذا الوصف فإن المقام -أعني: مقام الهجاء اللاذع- مما يستدعي توجيه أشنع صفات الذم للمذموم والمبالغة فيها، ولو نقص الشاعر عن هذه الدرجة التي وَصم بها مهجوه من البخل لما وصل إلى غرضه، فالمبالغة فيها داخلة في غرض الشاعر مرتبطة بالحال الذي أراد لكلامه أن يجيء مطابقًا لها، حتى يوصف بصفة البلاغة، وقس على هذا المثال جميع أمثلة المبالغة، وستجدها مرتبطة بالحال والمقام والأغراض التي قيلت فيه.
وخذ أسلوب الاستخدام في قول الشاعر:
إذا نزل السماء بأراض قوم ... رعيناه وإن كانوا غضابا