هممهم إلى الصياغة ليلبسوها أبهى حلل البيان، وأسمى صفات الكلام، وذلك لا يتأتَّى إلا بالزخرف والزينة والبهرج والتوليد في المعاني، فكلفوا بها وتعمدوها.
وقصدوا إلى الشعر القديم يلتمسون منه هذه الألوان، ويتفننون فيها، فاجتمع لهم منها الكثير من طباق إلى جناس إلى تورية إلى مشاكلة وغير ذلك، وأطلقوا على كل ذلك اسم البديع، وشتان بين هذه الألوان في شعر الأقدمين وشعر المحدثين، فقد جاءت في شعر الأقدمين تساير الطبع وتقع موقعها دون قصد لها أو تكلف، بينما جاءت في شعر المحدثين عن تعمد وقصد وتكلف.
قال صاحب (الوساطة): فلما أفضى الشعر إلى المحدثين ورأوا مواقع تلك الأبيات من الغرابة والحسن، وتميزها عن أخواتها في الرشاقة واللطف، تكلفوا الاحتذاء عليها فسموه البديع، فمن محسن ومسيء، ومحمود ومذموم، ومقتصد ومفرط، وأصبح البديع بذلك صنعة لها روادها من أمثال بشار بن برد ومسلم بن الوليد والعتابي ومنصور النمري وأبي نواس وأبي تمام والبحتري وعبد الله بن المعتز، فقد كان الواحد من هؤلاء يقصد إلى تلك الأصباغ ويكثر منها في شعره، ولكنهم لم يكونوا سواء في تلك الصنعة من حيث الإقلال والإكثار والتسهيل والتوعر والطابع والاتجاه، فمنصور النمري من شعراء البديع استقى من بديع العتابي وذهب مذهبه وأربى عليه في المبالغة.
قال صاحب (الأغاني): كان منصور شاعرًا من شعراء الدولة العباسية من أهل الجزيرة، وهو تلميذ كلثوم بن عمرو العتابي وراويته، وعنه أخذ ومن بحره استقى ومن مذهبه تشبه، فمن طباقه ومبالغاته قوله يمدح الرشيد:
إذا رفعت أمرًا فالله يرفعه ... ومَن وضعت من الأقوام متضع
مَن لم يكن بأمين الله معتصمًا ... فليس بالصلوات الخمس ينتفع