ومنه قول أعرابي وقف على مجلس الحسن البصري فقال: رحم الله عبدًا أعطى من سعة أو أسى من كفاف أو آثر من قلة، فقال الحسن: ما ترك لأحد عذرًا.

وغير ذلك من الألوان البديعية التي كثرت كثرة فائقة في الأدب الإسلامي، لكنها -كما أشرنا- لم تأت عن تعمل أو تكلف، ولكنها سايرت الطبع العربي السليم والفطرة النقية المستقيمة.

ثم أخذت الحياة العربية تسير بخطًى واسعةٍ، وتقفز قفزات سريعة، فما أن جاءت الدولة العباسية حتى وجد العرب أمامهم أبوابًا من الرفاهية والترف والحضارة صبغت حياتهم بصبغة جديدة، ووجدوا أمامهم علوم الأمم التي فتحوها وثقافات تلك الأمم، فانكبوا عليها يحصلونها جادين متلهفين، كما زاولوا صناعات تلك الأمم ومهاراتهم ونقلوها عنهم، كل ذلك جعلهم في أسمى درجات الحضارة وفي أرفع قِمم المدنية، فعم الأمن وكثر الخير وتعددت مناحي الرزق، فرتعوا في بحبوحة العيش، ورفلوا في أبهى أنواع الحلل، وارتدوا الخز والديباج، واستبدلوا بالعباءة المطارف والغلائل.

كما تغيرت أصول عاداتهم وأخلاقهم، ففشا المجون وانتشرت الزندقة، وشاع الجهر بالفسق وتعقدت الحياة العربية، وطغت عليها أساليب المدنية والتحضر، والشعر كما هو معروف مرآة تنعكس عليها حياة الأمم، ولسان يترجم عن أحوالها وجوانب حياتها، ومن الطبعي أن يتأثر الشعر بهذه الحياة الجديدة فيلبس حُللًا من الزخرف والزينة والتنميق، ونظر الشعراء في شعر أسلافهم الأقدمين، فوجدوا أن الأقدمين صرفوا هممهم إلى المعاني، وكان لهم بها فضل عناية، فمعاني الفخر والمديح والغزل والرثاء وغيرها طُرقت منذ قرون، كما وجدوا أن الأقدمين سبقوا إلى الألفاظ القوية والعبارات الجزلة والأساليب المرضية، فصرفوا

طور بواسطة نورين ميديا © 2015