ومن المعلوم بالبداهة أن الأدب العربي جاء منذ الجاهلية صورة حية لحياة العرب وصدقهم في نقل مشاعرهم وأحاسيسهم، كما جاء معبرًا عن طبيعة القوم وميلهم إلى الاسترسال والطبع، والبعد عن التكلف والصنعة، فهو يصور البداوة وما فيها من خشونة وشظف ورعونة واضطراب، وما فيها من رقة المشاعر وإرهاف الملكات ودقة الحس، فأدبهم مِرآة صادقة انعكست عليها أخلاقهم، وتمثلت فيها حقيقة حالهم، ولذا كان له سحر أخذ بالألباب وبالعقول، فهم إذا خطبوا أثاروا المشاعر وأيقظوا الوجدان وألهبوا النفوس، وإذا نظموا القصيد أخذوا بمجامع القلوب وسحروا الألباب والأفئدة، سالكين أقرب السبل لا يتعملون ولا يتكلفون ولا يتأنقون.
يقول الجاحظ: كل شيء للعرب إنما هو بديهة وارتجال وكأنه إلهام، وليست هناك معاناة ولا مكابدة ولا إجالة فكرة ولا استعانة، وإنما هو أن يصرف همه إلى الكلام، وإلى رجز يوم الخصام، أو حين يمنح على رأس بئر أو يحدو ببعير، فما هو إلا أن يصرف همه إلى جملة المذهب وإلى العمود الذي إليه يقصد، فتأتيه المعاني إرسالًا، وتنثال عليه الألفاظ انثيالًا.
وعلى الرغم من وجود طائفة من الشعراء عنوا بشعرهم وحرصوا على تجويده، فلا يخرج على الناس إلا بعد تثقيفه وتهذيبه، فإن حِرص هؤلاء وعنايتهم ليست إلا إعادة نظر في الشعر بعد إنشائه، حتى إنهم كانوا يدعون القصيدة تمكث عندهم حولًا كاملًا يرددون فيها النظر ويقلبون فيها الرأي، فلم يخرج صنيعهم هذا عن دائرة الطبع. وكان من هؤلاء زهير والنابغة والحطيئة وأطلق عليهم اسم عبيد الشعر.