ونتوقف من هذه الأبيات عند الثالث منها ففيه بغيتنا وهي الكناية عن نسبة، حيث صرح بالموصوف وهو الخصيب وصرح بالصفة وهي المجد، ولكنه لم يصرح بنسبة المجد إليه وإنما ذكر نسبة أخرى تتطلبها، وهي صيرورة المجد في المكان الذي يصير فيه الممدوح، وهذا يعني أنه غاية في الكرم، ولا يخفَى عليك ما في البيت من خيال بديع، حيث صور لك الجود في صورة حي متحرك وأنه يلازِم الممدوح أينما حل وكيفما صار.
ومن روائع هذه الكناية أيضًا قول الشنفرى الأسدي يصف امرأة بالعفة:
يبيت بمنجاة من اللوم بيتها ... إذا ما بيوت بالملامة حلت
فالصفة هي العفة وهي البراءة من اللوم عند ملابسة الفجور، والموصوف هي المرأة المعبر عنها بضمير الغائبة المضاف إلى البيت، ولم يصرح الشاعر بنسبة البراءة من اللوم إلى صاحبته كأن يقول: تبيت ناجية من اللوم، أو بما شابه ذلك، ولكنه نسب تلك البراءة إلى بيتها والمراد نسبتها إليها؛ لأن نسبة البراءة إلى بيتها تقتضي نسبتها إليها، ونود أن نشير إلى أن النجاة من اللوم كناية عن العفة، ففي الشطر الأول كنايتان: كناية عن صفة وهي النجاة من اللوم، وكناية عن نسبة وهي نسبة النجاة من اللوم إلى البيت، والمقصود نسبتها إلى صاحبته، وفي الشطر الثاني أيضًا كنايتان على تلك الصورة، غير أن الموصوف جمع وهم أصحاب البيوت.
ونظير ذلك وهو اجتماع كنايتين في جملة واحدة قولنا: كثر الرماد في ساحة عمرو، فكثرة الرماد كناية عن صفة الكرم، وإثبات الكرم في ساحة عمرو المعبر عنه بكثرة الرماد، كناية عن نسبة الكرم إليه، فقد اجتمعت كنايتان في جملة واحدة وجعلت إحداهما وهي كثرة الرماد طرفًا للثانية وهي إثبات كثرة الرماد في