يسمع عنه وهو يصد الرياح دون الوجهة التي تنطلق نحوها، ولكن الشاعر لم يسق هذه الصفات سوقًا مباشرًا، بل قدم ما يشير إليها، وترك لمتذوق فنه أن يستشف مراميه، وشبيه بما قاله ابن خفاجة قول البحتري يصف قصرًا:
ملأت جوانبه الفضاء وعانقت ... شُرفاته قطع السحاب الممطر
وحين ترى قصرًا ملأت جوانبه الفضاء ولامست شرفاته السحاب، فإنك ستدرك على الفور ضخامته وارتفاعه، غير أن مبالغة البحتري أبعد مدًى من مبالغة ابن خفاجة؛ إذ الأول يصف قصرًا والثاني يصف جبلًا، ولن تكون ضخامة قصر وارتفاعه مماثلة لما يكون من ذلك في الجبل، للوصفين مبالغة عند الشاعرين، ولكنها أقرب إلى النفوس عند ابن خفاجة. ومما نلفت إليه أن صفة الارتفاع المكنَّى عنها بالمطاولة والمزاحمة والمعانقة صُبت في إطار الاستعارة، فتآزرت الاستعارة والكناية عند الشاعرين في رسم صورة ضخمة لذلك العلو ترينا الخيال محلقًا في آفاق لا حدودَ لها.
وتجري الكناية القريبة عن صفة على ألسنتنا كثيرًا ربما دون أن ندري، فتقول مثلًا: فلان طاهر الذيل ونقي الثوب، كناية عن العفاف والطهر، فطهارة الذيل ونقاء الثوب صفتان يلازمهما عادةً صفة العفاف وصفة الطهر، وقوله: فلان شب عن الطوق، كناية عن اجتيازه مرحلة الطفولة إلى مرحلة اليفاعة والشباب، فالشب عن الطوق صفة تلازمها عادةً صفة اجتياز مرحلة الطفولة وكذا قولهم: ضرب فلان كفًّا بكف، كناية عن الندم والتحسر. أصبح فلان يمشي على عكاز، كناية عن ضعفه وكِبر سنه، وفلان كثير الرماد وجبان الكلب ومهزول الفصيل، كناية عن الكرم والجود، وفلان طويل النجاد، كناية عن طول القامة، وقضَّب وجهه وانتفخت أوداجُه، كناية عن الغضب، واحمر وجهه، كناية عن الخجل،