الغوادي يعني بها السحاب، وهو هنا يدعو لقبره بالسقيا أربعة أيام يتلوها أربعة أخرى كناية عن الكثرة، فالنزول بمعن غير ممكن؛ لأنه ميت وهذا يعني أنه أطلق الحال، وهو معن، وأريد به المحل وهو القبر، وفي ذلك إيحاء بقوة المحبة له وللمكان الذي يقيم فيه، ولولا وجود معن في القبر لما دعا له بالسقيا. من ذلك أيضا قول الشاعر:
قل للجبان إذا تأخر سرجه ... هل أنت من شرك المنية ناجي
يريد إذا تأخر فرسه إذ السرج حال، والفرس محل له.
من هذه العلاقات التي هي للمجاز المرسل المحلية، وهي أن يعبر بالمحل ويراد الحال فيه، أو كما يقولون: إطلاق المحل وإرادة الحال فيه.
ومما يجلي هذه الصورة من المجاز قول الله تعالى على لسان إخوة يوسف -عليه السلام- وقد انطلى عليهم تدبير يوسف: {ارْجِعُوا إِلَى أَبِيكُمْ فَقُولُوا يَا أَبَانَا إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ وَمَا شَهِدْنَا إِلَّا بِمَا عَلِمْنَا وَمَا كُنَّا لِلْغَيْبِ حَافِظِينَ * وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنَا فِيهَا وَإِنَّا لَصَادِقُونَ} (يوسف: 81، 82).
وموطن المجاز هنا هو قول الله تعالى: {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} وسؤال القرية بمعنى الدور ودروبها أمر غير ممكن إذ كيف يسأل الجماد، وهذا قرينة تدل على أن لفظ القرية مراد به غير معناه الحقيقي، وهو أهلها المقيمون فيها. وإنما عبر بلفظ القرية، ولم يعبر بلفظ الأهل مع أنه هو المراد؛ لأن في المجاز إيماء إلى الاستقصاء في السؤال حتى لو أمكن سؤال المكان لكان ليعقوب أن يسأله؛ ليكون شاهدًا بصدق ما يقوله أولاده، ولو أنه قيل: واسأل أهل القرية لما كان فيه الإيحاء بالاستقصاء وذيوع أمر السرقة، وفيها شهادة بصدقهم، وبراءتهم مما وقر في نفس يعقوب من احتمال تدبيرهم للتخلص منه كما فعلوا بيوسف من قبل.