وقوله عز وجل: {وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ} (نوح: 7) فقد عبر هنا بالأصابع في الآيتين وأراد الأنامل من باب إطلاق لفظ الكل على الجزء مجازًا مرسلًا علاقته الكلية.

والسر البلاغي في العدول عن الحقيقة إلى المجاز في الآيتين هو رغبة القوم في تعطيل حاسة السمع بأقصى ما يمكن؛ مبالغة فيما يشعرون به من هول الصواعق وفظاعتها في سورة البقرة، ومبالغة في إعراضهم عن الحق في سورة نوح -عليه السلام، والقرينة هي استحالة وضع الإصبع كلها في الأذن عادة. ومن ذلك قول السموأل:

تسيل على حد الظباة نفوسنا ... وليست على غير الظباة تسيل

الظباة جمع ظبة، وهي حد السيف، فهنا يعبر بالنفوس عن الدماء، هو مجاز إذن مرسل علاقته الكلية؛ لأن الدماء جزء من النفوس والقرينة قوله: تسيل؛ لأن السيلان يكون للدماء.

ومنه أيضا قولهم: قطعت السارق يريدون يده، أكلت نبات الأرض، وشربت ماء النيل، وقرأت في البلاغة ما كتب السابقون واللاحقون، والمراد بعض النبات وجزء من الماء، وكثير مما كتبوا، فهو في كل ذلك مجاز مرسل علاقته الكلية، والقرينة استحالة أكل الكل أو شربه واستحالة الإحاطة بكل ما كتب.

من علاقات المجاز المرسل علاقة اعتبار ما كان، وهي أن يعبر عن الشيء باسم ما كان عليه من قبل كما في قول الله تعالى: {وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ وَلَا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ} (النساء: 2) فاليتيم من مات أبوه ولم يبلغ سن الرشد، وهو لا يسلم إليه بموجب الشرع أمواله لعجزه عن التصرف فيها في هذه السن، وإنما تدفع إليه بعد أن يتجاوز سن اليتم ويصير رشيدًا، فتسميتهم يتامى عندئذ باعتبار ما كان قبل

طور بواسطة نورين ميديا © 2015