قال سفيان الثوري وغيره من العلماء: (البدعة أحب إلى إبليس من المعصية؛ لأن البدعة لا يتاب منها، والمعصية يتاب منها، ومن أظهر الدلائل على أن إبليس لا يكترث بالمعصية، حديث جابر الذي رواه الإمام مسلم في صحيحه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن إبليس يضع عرشه على الماء) فهو يضع عرشه أي: الكرسي، ثم يجلس عليه وبعد ذلك يعطي للأبالسة خط سير، كل واحد يذهب إلى بني آدم: (يرسل سراياه تترى إلى بني آدم ... ) تترى: بعضها خلف بعض.
لو أننا نعمل كالأبالسة لكنا من المصطفَين الأخيار، إنهم لا يكلون ولا ينامون ولا يهدءون، فإبليس لا يحاسب رأس كل شهر ولا أسبوع، إبليس يحاسب كل يوم، يرسل سراياه تترى، ثم بعد ذلك يأتون مرتصين أمامه كالطابور، وهو قاعد على الكرسي، كل واحد يأتي له بتقرير (يقول الأول: ما تركته حتى فعل كذا وكذا) ونحن يمكن أن نسمي كذا وكذا من عندنا، مثلاً يقول: ما تركته حتى زنى، نقول له إبليس لم تصنع شيئاً، وأنت؟! فيقول: ما تركته حتى قتل أخاه يقول له: لم تصنع شيئاً، وأنت؟! فيقول: ما تركته حتى شرب الخمر، وأنت؟ فيقول: ما تركته حتى سرق، لم تصنع شيئاً، كلهم لم يصنعوا شيئاً، حتى يأتي الدور على واحد منهم فيقول له: وأنت ماذا فعلت؟ يقول: ما تركته حتى فرقت بينه وبين أهله، حينئذ يقوم من كرسيه ويعتنقه (يلتزمه) ثم يقول له: نعم أنت، أنت أنت.
هذا الشغل.
إذاً أهل الطلاق حلال أم حرام؟ الطلاق بدون سبب مباح، والذي يقول: إنه لابد أن يكون للطلاق من علة مخطئ (فالنبي صلى الله عليه وسلم لما طلق حفصة جاءه جبريل عليه السلام فقال إن ربك يأمرك أن تراجعها فإنها صوامة قوامة) هل هناك أفضل من هذا؟ صوامة قوامة، فالطلاق مباح، لكن هل الزنا حلال؟ الخمر حلال؟ القتل حلال؟ أبداً، كان المفروض أن إبليس عندما يقول له ابنه: ما تركته حتى زنى يقوم ليعانقه تعظيماً لما قام به، فكيف يعظم إبليس شيئاً من المباحات ولا يكترث بالكبائر؟ مع أن هذا المطلق لزوجه لم يرتكب حراماً، وهذا ارتكب كبيرة؛ لأن العبد إذا ملأ الأرض بالمعاصي ثم قال: رب تبت، قال: غفرت لك، إذاً ذهب جهد إبليس كله هدراً، لذلك إبليس لا يكترث بالمعصية، لا تهمه؛ لأن العبد إذا تاب تاب الله عليه، لو ظل مائة عام يعصي الله عز وجل، ثم رزقه الله الإنابة إليه، ووفقه إلى عمل صالح قدمه قبل موته، ذهب عمل إبليس كله.
ولا أدل على ذلك من قصة الرجل الذي قتل تسعاً وتسعين نفساً، لما ذهب يسأل العابد قال له: لا توبة لك فقتله فأكمل به المائة.
هذه مائة نفس قتلها رجل واحد، وغفر الله تبارك وتعالى له، إذاً المعصية لا قيمة لها عند إبليس، إذ أنه يُتاب منها، أما البدعة فلا يُتاب منها؛ لأن العبد يعتقدها ديناً.
ومن الأدلة الواضحة التي ذكرت في كتب التاريخ قصة الجعد بن درهم رأس الجهمية القدرية المعطلة، أخذ البدعة عن ابن سمعان، وابن سمعان أخذها عن طالوت، وطالوت أخذها عن لبيد بن الأعصم اليهودي الذي سحر النبي عليه الصلاة والسلام، والجهم بن صفوان أخذ المذهب الرديء عن الجعد بن درهم.
انظر الإسناد! ظلمات بعضها فوق بعض، الجهم عن الجعد عن ابن سمعان عن طالوت عن لبيد اليهودي.
الجعد بن درهم قال: إن الله لم يكلم موسى تكليماً ولم يتخذ إبراهيم خليلاً، هذا مضاد لصريح القرآن: {وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا} [النساء:125] {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا} [النساء:164] ، لماذا تنكر؟ قال: لأن الكلام يحتاج إلى شفتين وأسنان ولهاة وحنك، ويحتاج إلى حنجرة وصوت وهواء وغيرها، والله منزه عن ذلك، إذاً الله لا يتكلم؛ ولأن إثبات الكلام معناه إثبات الجارحة والله ليس كمثله شيء، إذاً لا نثبت له الكلام، وهكذا دواليك، حتى نفى الصفات كلها فصار يعبد عدماً.
له إله لا سميعاً ولا بصيراً ولا متكلماً ولا عليماً ولا قديراً، ما هذا!! خلقه أحسن منه! يعني: أن الإنسان المخلوق سميع وبصير ومتكلم وحساس، وقادر، إذاً الإنسان أحسن من خالقه، فهذا المعطل يعبد عدماً، فلما أظهر هذه المقالة الشنيعة طلبه الأمير آنذاك -وكان خالد بن عبد الله القسري - وأرسل الشرطة فقبضوا عليه وكان بإمكانه أن يتوب، لكنه لم يتب، وظل محبوساً حتى عيد الأضحى، أتوا به مقيداً ووضعوه تحت المنبر، خطب خالد بن عبد الله القسري خطبة العيد، وختمها بقوله: أيها الناس! ضحوا تقبل الله ضحاياكم فإني مضح بـ الجعد بن درهم، فإنه يزعم أن الله لم يكلم موسى تكليماً، ولم يتخذ إبراهيم خليلاً، ونزل فذبحه في أصل المنبر، فشكر له علماء المسلمين ذلك انظر خطورة البدعة!! الله تبارك وتعالى رخص للمسلم أن يتكلم بكلمة الكفر لينجو، قال تبارك وتعالى: {إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ} [النحل:106] .
نزلت هذه الآية في عمار بن ياسر رضي الله عنه كان نحيفاً ضعيفاً، فأخذه صناديد قريش وعذبوه العذاب الأليم، وشرطوا عليه لكي يتركوه أن يسب النبي عليه الصلاة والسلام، لم يتحمل العذاب، قال لهم: ماذا أقول؟ قالوا: قل: هو ساحر، هو كاهن، هو مجنون، قال: ساحر، كاهن، مجنون، فلما تركوه وبرد جلده، لام نفسه، وقال: هذا الذي أخرجني من الظلمات إلى النور! مجنون ساحر كاهن! ذهب إلى الرسول عليه الصلاة والسلام وقال له ذلك فقال: (يا عمار كيف تجد قلبك؟ قال: يا رسول الله! أجده مطمئناً بالإيمان.
قال: يا عمار! إن عادوا فعد) مع أن سب الرسول عليه الصلاة والسلام كفر، باتفاق العلماء أن الذي يسب الرسول عليه الصلاة والسلام يقتل ولو تاب؛ حماية لجناب الرسول عليه الصلاة والسلام حتى يكون معظماً عند الناس؛ لأن من الممكن أن هذا التائب يكون كاذباً في رجوعه، فلو تركنا الرسول عليه الصلاة والسلام لكل أحد يسبه فممكن لأي شخص أن يسب ثم يدعي التوبة، حرمة الرسول صلى الله عليه وسلم ليست مهزلة؛ فمن يسب النبي فإنه يقتل ولو تاب، فإن كان تاب حقاً نفعه هذا بينه وبين الله، وإن كان كاذباً مات على ذلك، ما اتفق عليه العلماء، ومع ذلك الرسول عليه الصلاة والسلام يقول له: (كيف تجد قلبك؟ يقول: أجده مطمئناً بالإيمان، يقول: إن عادوا فعد) إن عادوا لضربك فعد إلى سبي.
إذاً يرخص للمسلم إذا وقع في مثل هذه المواقف أن يصرح بكلمة الكفر؛ فكان يمكن للجعد بن درهم أن يقول: أنا كنت مخطئاً، أنا تبت، وينقذ نفسه ولو كاذباً؛ لكنه أبى وفضّل أن يقتل دون أن يرجع عن هذه البدعة؛ لأنه يعتقدها ديناً، ولو أنك ذهبت إلى عالم من علماء المسلمين وقلت له: ارجع عن دينك لا يرجع أبداً، كذلك المبتدع لا يرجع أبداً، كما أن هذا العابد يعتقد بدعته ديناً، لذلك لا يمكن أن يرجع، فالبدعة خطيرة جداً جداً، وكل الذي بيننا من الخور أصله البدعة، ولو أننا هجرنا المبتدعة في الله مع مراعاة الأحكام الشرعية الخمسة، ومراعاة ضبط المصالح والمفاسد لذلوا، هم الآن أطول الناس أعناقاً.
الذين يدعون الآن لاجتماع شمل المسلمين واهمون، كيف تجمع ما بين رجل يقول: الله في كل مكان، وما بين رجل يقول: الله في السماء وهذا هو القول الحق؟! الذي يقول: إن الله في كل مكان، يتهم الذي يقول: إن الله في السماء بأنه مجسم، اتهامات متبادلة، كيف تجمع ما بين رجال اختلفوا في ربهم، هناك من يقول: الله لا فوق ولا تحت ولا وراء ولا أمام ولا خارج العالم ولا داخله؟!