جاء في سنن الدارمي بسند صحيح عن يحيى بن سلمة بن كهيل عن أبيه قال: (كنا جلوساً بباب عبد الله بن مسعود بعد صلاة الغداة، فبينما نحن جلوس إذ جاء أبو موسى الأشعري رضي الله عنه وقال: أخرج أبو عبد الرحمن؟ قلنا: لا، فجلس معنا، فلما خرج اكتنفناه فقال أبو موسى: أبا عبد الرحمن لقد رأيت في المسجد آنفاً شيئاً أنكرته ولم أر والحمد لله إلا خيراً، قال: وماذا رأيت؟ قال: إن عشت فستراه، رأيت قوماً حِلقاً حِلقاً، أمامهم حصى يسبحون الله تبارك وتعالى، ويكبرونه، ويحمدونه، ومعهم رجل يقول: سبحوا مائة، فيأخذون مائة حصاة ويسبحون، كبروا مائة، فيكبرون مائة بالحصى.
وفي بعض الروايات خارج الدارمي قال: (فرجع ابن مسعود إلى داره وتلثم، ثم دخل المسجد فإذا هم كما وصف أبو موسى الأشعري) .
حينئذ كشف ابن مسعود رضي الله عنه عن وجهه وقال: (ما أسرع هلكتكم يا أمة محمد! هاهو محمد صلى الله عليه وسلم آنيته لم تكسر، وثيابه لم تبلَ حتى جئتم بشيءٍ ما فعله ولا أصحابه أنا عبد الله بن مسعود، أنا صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا: والله يا أبا عبد الرحمن! ما نريد إلا الخير.
-قولة كل مبتدع- فقال: كم من مريد للخير لا يبلغه؟ إن رسول الله صلى الله عليه وسلم حدثنا: (أن رجالاً يقرءون القرآن لا يجاوز تراقيهم وايم الله لعل أكثركم منهم، قال راوي الحديث: فلقد رأيت عامة هؤلاء يطاعنوننا يوم النهروان مع الخوارج) .
فهذا مثال، وهناك بعض المسلمين يستحب التسبيح بهذه الصورة، وهو التسبيح على المسبحة؛ لأنه لا فرق بين التسبيح على الحصى باعتبار أن الحصى فرد، وبين أن تنظم هذا الحصى في عقد.
فالآن من المسلمين من يُفتي باستحباب التسبيح على المسبحة، وهذه كانت بدعة عند الصحابة، فانظر إلى تطاول الزمن! كان عندهم بدعة ثم صار مستحباً عندنا، وعبد الله بن مسعود أفقه صحابي، نزل الكوفة بعد علي بن أبي طالب، ويشهد الكل له بذلك، وكان فقيهاً في دين الله عز وجل لاسيما في كتابه تبارك وتعالى، كان يقول: (لقد أخذت سبعين سورة من فم رسول الله صلى الله عليه وسلم لو أعلم أن رجلاً عنده ما ليس عندي تضرب إليه أكباد الإبل لفعلت) .
عندما يرى عبد الله بن مسعود رجالاً يسبحون الله على الحصى في المسجد، فهذه هي البدعة الإضافية، التسبيح مشروع لكن هيئته هي البدعة، فانظر كيف صار لها وجهان؟ وجه مشروع، وهو أصل التسبيح، ووجه غير مشروع وهو كيفية التسبيح؛ لذلك هؤلاء ينسبون هذه الهيئة كلها اعتماداً على الأصل إلى الشرع، ولذلك أبو موسى الأشعري قال لـ عبد الله بن مسعود: (رأيت في المسجد شيئاً أنكرته، ولم أر والحمد لله إلا خيراً) وإذا كان خيراً لماذا تنكره؟ الكلام قد يبدو متناقضاً: (أنكرته ولم أر إلا خيراً) إذا لم تر إلا خيراً فما الداعي للإنكار؟ أي: أصل الذكر لا يُنكر، رجال جلسوا يذكرون الله، من ينكر هذا؟! فهذا الذي عناه أبو موسى الأشعري قال: لم أر والحمد لله إلا خيراً.
أما الذي أنكره فهو كيفية التسبيح.
ولذلك كان في الماضي يوجد بدعة وسنة، أما الآن فالموجود هو بدعة وردة؛ لذلك أصبح الناس الآن يرون البدع ولا ينكرونها؛ لأنهم يرون في مقابل البدعة كفراً بواحاً، فتهون البدعة عندهم، وما علم هذا المسكين أن عدم إنكاره للبدع هو السبب في وجود هذا الكفر.
لا تحقرن صغيرة إن الجبال من الحصى الصحابة كان عندهم نفرة شديدة من أي محدثٍ مهما كان دقيقاً، لذلك ظل الدين نقياً عندهم، فأنت إذا كان عندك حساسية شديدة للصغير فمن باب أولى أن تنكر الكبير؛ لكن إذا أنكرت الكبير فقط مر الصغير بسلام، وهذه هي المشكلة، صغير مع صغير مع صغير، تفاجأ أنه صار جبلاً يصعب عليك إنكاره.
فالآن لو وجد شخص ينكر المسبحة، يقول له الآخر: تنكر عليه لماذا؟ ترى الناس قاعدين على المقاهي يشربون الحشيش والقهوة ولا تنكر عليهم، انظر كيف؟ أتى بالحشيش والأفيون في مقابل المسبحة، إذاً الذي يسبح بالمسبحة رضي الله عنه، ما دام أنك وضعت في مقابله هذا الحشاش، لكن عندما تقيس المسألة قياساً صحيحاً، وتضع هذا الذي يسبح على الحصى في مقابل ما كان يفعله الصحابة، تقوم فتشنع على هذا الذي يسبح بالحصى، وذلك لأن الصحابة كانوا ينكرونه.
لذلك نحن نريد أن نبين كيف كان الجيل الأول ينكر؟ لأنهم أفضل الناس علماً وعملاً، وأرق الناس قلوباً.
فـ عبد الله بن مسعود وأبو موسى الأشعري أنكرا مجرد التسبيح.
المبتدع إنما يريد أن يثبت بدعته اعتباراً بدليل الأصل، وبعض الناس لما سمع هذا الحديث جاء وقال: ألم يقل الله تبارك وتعالى: {اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا} [الأحزاب:41] فجعل الذكر مطلقاً لماذا تريد أن تقيده؟ هذا يرد على ابن مسعود وأبي موسى الأشعري لأنهما أنكرا مثل هذا الفهم المطلق، لا يجوز لنا أن نطلق فهماً كان الصحابة يرونه مقيداً، العبرة بهم فالنبي عليه الصلاة والسلام لما علّم الصحابة قال لبعض زوجاته، أو لبعض النساء: (واعقدن التسبيح بالأنامل فإنهن مسئولات مستنطقات) والتسبيح يكون بالأنامل، كل أنملة يسبح عليها ثلاث مرات، والأنامل هي أطراف الأصابع، ومن استهون مثل هذا يستهون غيره، ومشكلة المبتدع أنه يعتقد بدعته ديناً، لذلك مهما جئته بكل آية لا يسلِّم.