أغلب الجماهير الآن التي تتمذهب بمذهب معين لا تعرف شيئاً حتى عن صاحب المذهب، فبعض الناس يتصور أن الإمام مالك بن أنس، لأجل أن اسمه مالك بن أنس، هل سيكون في الدنيا أحد اسمه: مالك بن أنس؟ إذا هو أبوه، فيقول الإمام مالك بن أنس رضي الله عنهما! لا يعرف إمام المذهب ولا أبوه من هو؟ قابلت مجموعة من أصحاب المذهب المالكي، وقام أحدهم معترضاً عليَّ بقوله: إن الكلام هذا الذي نسمعه إن هذا حديث ضعيف وهذا حديث صحيح لا نعرفه، لأن المشهور أن المتأخرين خلطوا المذهب بخلاف المتقدمين، فإنهم كانوا يعرفون الحديث الصحيح من الحديث ضعيف، الحديث هو: (من لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر فلا صلاة له) هذا الحديث ضعيف فهو منكر من جهة معناه، قام وقال لي: كيف تقول هذا الكلام؟ هو يعرف ابن عبد البر، الذي إذا ذكر المذهب المالكي فهو شمس في رابعة النهار، لقد خدم المذهب المالكي وموطأ مالك خدمة جليلة ما فعلها قبله أحد ولا بعده، صنف كتابين من أكمل الكتب وأطولها على موطأ مالك: الأول التمهيد، والثاني الاستذكار، وتخيل لو بقي ككتب الإمام ابن عبد البر التي يخدم فيها المذهب المالكي، فواحد متخصص في الفقه المالكي ويظل في الفقه المالكي وهو الإمام ابن عبد البر، ومحسوب على المذهب المالكي، ثم جاء بعده القاضي عبد الوهاب أشهر العلماء المحققين؟ بعد ابن عبد البر وهو الذي تصدى لـ أبي العلاء المعري صاحب المقالة الكافرة: يد بخمس مئين عسجد وديت ما بالها قطعت في ربع دينار وابن حزم رحمه الله قد اعترف لـ ابن عبد البر بالفضل وهم كلهم كانوا أقراناً، أي: كانوا أصحاباً، وكل منهم يعيش في الأندلس، قال ابن حزم في مدح كتاب التمهيد: كتاب التمهيد لصاحبه أبي عمر يوسف بن عبد البر لا أعرف في فقه الحديث مثله فضلاً عن أحسن منه، أي: أنه أعظم محققي المذهب المالكي.
واليوم كثير جداً من المتظاهرين للمذهب لا يعرف شيئاً عن المذهب؟ متعصب أنت لماذا؟ لماذا نجلّ الإمام ابن جرير الطبري؛ لأنه قال كلمة هو يفهمها ابن جرير ما قصد أن يجني على الإمام أحمد، كيف وأحمد الإمام العالم العلم الذي لا يختلف اثنان أن فقهه من أجود الفقه، تجدهم وآباؤهم مقلدين على مذهب أحمد، مع أن أسمى المذاهب الفقهية هو المذهب الشافعي، لكن ألزم المذاهب للسنة هو المذهب الحنبلي، فالإمام ابن جرير لما قال: وأحمد فقيه، أراد أن يقول: إن الإمام أحمد ليس فقيهاً صرفاً، بل غلب عليه الحديث، هذا هو الذي قصده الإمام ابن جرير، ولذلك فقه صنف اختلاف الفقهاء الذين هم فقهاء، أما الإمام أحمد فهو أعلم الأئمة جميعاً بالسنة، ومسنده الشهير الذي يحوي أكثر من (27.
000) حديث شاهد بذلك، وحسبك أن الإمام الشافعي لما دخل بغداد، ولقي أحمد، فانبهر به، قال: أحمد إمام في: الحديث والفقه والورع وأخذ يعد، قال لـ أحمد: يا أحمد! نحن أعلم بالفقه منكم، وأنتم أعلم بالحديث منا، لو قلت قولاً يخالف قول النبي صلى الله عليه وسلم فأعلمني أرجع عنه، مع أن الإمام الشافعي أستاذ الإمام أحمد إنما الأثرة أن الأستاذ يرى التلميذ طول عمره تلميذاً فليس عيباً أن يرجع إلى قول تلميذه إذا كان الحق معه، إذا قال التلميذ قولاً يخالف أستاذه الإمام الجليل، الشافعي يقول: أنت أعلم بالحديث منا.
وللعلم فإن الإمام أحمد لم يصنف كتاباً فقهياً لأنه كان لا يرى تصنيف الكتب، لأنه يقول: إنها تصده عن الحديث، عكف المتأخرون على كتب المختصر، كل واحد يقرأ في مختصر في المتن ثم في شرح المختصر ثم شرح شرح المختصر حتى غلب الجنون على المتأخرين إلا في الفقه.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في جهاده للمبتدعة الصوفية الذين يضحكون على الناس: ندخل أنا وأنتم هذه النار، بشرط أن نغسل أجسامنا بماء الخل، فإنهم يدهنون أجسامهم بدهن الضفادع وبحجر الطلق وذكر أشياء هم يفعلونها، قال: ثم ندخل النار، فمن احترق فعليه لعنة الله، وجعل يشد على الرجل ويقول له: قم -والرجل جالس في الأرض- وهو يشده، ويقول: قم بنا ندخل النار، فمن احترق فعليه لعنة الله، والسلطان متعجب من جرأة شيخ الإسلام والرجل الصوفي ارتعد والحق أبلج والباطل لجلج لا يثبت على شيء، فأبهر السلطان هذا الفعل، ورفع منار دعوة شيخ الإسلام رحمه الله.
فلما سئل شيخ الإسلام بعد ذلك عن دخول النار، وأنه لا يجوز لعبد أن يدخل النار مختاراً، وكيف لو قام الرجل ودخلها، فقال شيخ الإسلام رحمه الله: كنت أعلم أنني لو دخلتها لوجدتها كنار إبراهيم؛ لشدة صلته بالله، وقوة الرجاء به، وصدق اليقين يحرك الحجر.
وما قصة جريج عنكم ببعيد! خرج من بين قوم يعصون الله وبنى لنفسه صومعة خارج البلد يتعبد فيها، وقد انقطع عن الناس، ولم يجعل للصومعة سلماً حتى لا يصعد إليه أحد، وكيف كان يصعد؟ بحبل، إذا أراد أن ينزل أنزل بالحبل وتركه، حتى يقضي حاجته ثم يتسلق الحبل ثم يرفعه؛ حتى لا يخالط أحداً، فكانت أمه كل عدة أيام تذهب إليه لتراه، فجاءته يوماً وهو يصلي، فجعلت تقول: يا جريج! أجبني -ووضع النبي صلى الله عليه وسلم يده على حاجبه يمثل أم جريج! عند دعائها لولدها- وجريج يصلي فسمع دعاء أمه، فقال في نفسه: رب! أمي أو صلاتي! أمي وصلاتي! يعني: أجيب أمي أم أكمل صلاتي؟ فاختار صلاته على دعوة أمه، ورجعت الأم مشتاقة لولدها لم تره، وفي اليوم الثاني: جاءت تنادي: يا جريج! أجبني، قال: رب أمي وصلاتي! ففضل صلاته على دعوة أمه، وفي اليوم الثالث جاءت أيضاً: يا جريج! أجبني، فسمعها وهو يصلي فقال: رب أمي أو صلاتي! فاختار صلاته، فدعت عليه: أن لا يموت حتى يرى وجوه المومسات، فرَّ من فتنة النساء، فدعت عليه أن لا يموت حتى يرى وجوه اللواتي فرَّ منهن، وإذا أراد الله شيئاً هيأ أسبابه.
تحدث الناس عن عبادة جريج ما أعجبه! كيف يصبر وينقطع عن الناس؟! وكيف له الصبر وهو يتعبد كل هذه العبادة؟ فقالت امرأة بغي: إن شئتم لأفتننه لكم، قالوا: نعم قد شئنا، فذهبت المرأة وتعرضت لـ جريج فلم يلتفت إليها، فمكنت نفسها من راعي غنم كان يأوي إلى ظل الصومعة بغنمه، فحملت المرأة، وظلت تنشر في الناس أنها حامل من جريج، ادعت عليه، قالت: فتنته لكم، وهذا الولد منه، فلما ولدت المرأة -وهنا كعادة اليهود- أخذتهم الغيرة على الشرع والدين، كل واحد أخذ الفأس وذهبوا إلى جريج وهم الذين قالوا لها: افتنيه، كان جريج يصلي، وإذا به يسمع أصوات تكسير، فقطع صلاته ونظر فإذا بهم يكسرون صومعته، سوف يهدوها عليه، قال: ما الخطب؟ قالوا: انزل يا فاجر! انزل يا زانٍ! أحببت المرأة، كنا نظنك أعبدنا وأطوعنا، فتدلى بالحبل ونزل، فأوقعوه ركلاً وضرباً وينادون: يا فاجر! يا داعر! نسأل الله تبارك وتعالى أن يستر علينا يوم القيامة! فإن منا من يظهر النسك ويوم القيامة يكون فاجراً يتفرج عليه العباد، كما قال صلى الله عليه وسلم: (يؤتى بالعالم يوم القيامة، فيقذف في النار، فيدور حول أمعائه، فتندلق أقتابه من دبره، فيدور حولها كما يدور الحمار في الرحا، فيقول أهل النار: يا فلان! أولم تكن تأمرنا بالمعروف وتنهانا عن المنكر؟ قال: كنت آمركم بالمعروف ولا آتيه، وأنهاكم عن المنكر وآتيه) .
النساء تتفرج على جريج، ومن اللواتي وقفن على قارعة الطريق المومسات، فلما رآهن جريج -وقد كتفوه من ورائه- تبسم فاندهش الناس من تبسمه، هذا وقت إرهاق واضطراب، فقالوا له: مم تضحك؟ قال: أدركتني دعوة أمي (أن لا يموت حتى يرى وجوه المومسات) .
وورد في بعض طرق الحديث: أن المرأة الزانية هي بنت الملك، فتركها وأراد أن يقيم على الزاني بزعمهم الحد، هلا أقمت الحد على المرأة أيضاً.
ويحك يا جريج! كنا نظنك أعبدنا! أأحبلت المرأة؟ قال: دعوني أصلي ركعتين لله، فصلى ركعتين ثم قال: أين الغلام؟ جيء بالغلام الرضيع ابن يومين أو ثلاثة، فأخذه ونخسه في جنبه بإصبعه، وقال: من أبوك يا غلام؟ فقال الغلام: الراعي، ونطق وهو ابن يومين أو ثلاثة.
هل جرت العادة أن ينطق ابن يومين أو ثلاثة من لدن آدم عليه السلام إلى زمان جريج؟ ما جرت العادة بذلك، لكن الصدق والإيمان بالله أنطق الغلام، وليس الذي عاين كالذي سمعا.
لذلك يقول شيخ الإسلام: كنت أعلم أنني لو دخلتها لوجدتها كنار إبراهيم، لقوة يقينه بالله تبارك وتعالى، فلو جاء رجل على اسطوانة نار ونخسها وقال: كيف فعلت؟ لربما يتهمونه في عقله، لكن الصدق والإيمان بالله قد ينطق له هذه الأسطوانة، كما حرك الإخلاص الحجر الذي سد على أصحاب الغار الباب: {مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [هود:56] .
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم.