البخلاء للجاحظ (صفحة 258)

قد كنت أعجب من بعض السلف حيث قال: «ما أعرف شيئا مما كان الناس عليه إلا الأذان» ، وأنا أقول ذلك، ولم يزل الناس في هبوط ما ترفّعوا بالإسراف وما رفعوا البنيان للمطاولة. وإن من أعجب ما رأيت في هذا الزمان أو سمعت مفاخرة مويس بن عمران لأبي عبيد الله بن سلمان في أيهما كان أسبق الى ركوب البراذين. وما للتاجر وللبرذون «1» ؟ وما ركوب التجار للبراذين إلا كركوب العرب للبقر.

لو كانوا إذا جلسوا في الخيوش «2» ، واتخذوا الحمامات في الدور، وأقاموا وظائف الثلج والريحان، واتخذوا القيان والخصيان، استردّ الناس ودائعهم، واسترجعت القضاة أموال الأيتام والحشرية منهم، لعادوا الى دينهم وعيشهم. واقتصادهم. وإذا رآهم أصحاب الغلّات وأهل لشرف والبيوتات أنفوا أن يكونوا دونهم في البزّة والهيئة، فهلكوا وأهلكوا.

زعم أبو يعقوب الخريمي أن جعفر بن يحيى «3» أراد يوما حاجة كان طريقه اليها على باب الأصمعي، وأنه دفع إلى خادم له كيسا فيه ألف دينار، وقال له: «سأنزل في رجعتي الى الأصمعي، وسيحدّثني ويضحكني. فإذا رأيتني قد ضحكت، فضع الكيس بين يديه» . فلما دخل فرأى حبّا «4» مقطوع الرأس، وجرّة مكسورة العروة. وقصعة مشعّبة، وجفنة أعشارا، ورآه على مصلّى بال، وعليه برّ كان «5» أجرد، غمز غلامه بعينه ألا يضع الكيس بين يديه، ولا يدفع اليه شيئا. فلم يدع الأصمعي شيئا مما يضحك الثكلان والغضبان إلا أورده عليه، فما تبسّم.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015