ويهدي مَن يشاء هدايته بصرف اختياره عند مشاهدته تلك الآيات إلى جانب الهُدى، فمحل الكاف النصب على أنها صفة لمصدر محذوف، أي: يُضل مَن يشاء ويهدي مَن يشاء، إضلالاً وهدايةً كائنين مثل ما ذكر من الإضلال والهداية.
{وَمَا يعلمُ جنودَ رَبِّكَ} أي: جموع خلقه، التي من جملتها الملائكة المذكورون، {إلاّ هو} ، إذ لا سبيل لأحد إلى حصر مخلوقاته، والوقوف على حقائقها وصفتها، ولو إجمالاً، فضلاً عن الاطلاع على تفاصيل أحوالها، من كَم وكيف ونسبة، فلا يَعِز عليه جعلُ الخزنة أكثر مما هو عليه، ولكن في هذا العدد الخاص حكمة لا تعلمونها، {وما هي إِلاّ ذِكرَى للبشر} هذا متصل بوصف سقر، أي: ما سقر وصفتها إلاّ تذكرة للبشر؛ لينزجروا عن القبائح.
{
كَلاَّ} ؛ ردع لمَن أنكرها، أو نفي لأن يكون لهم تذكُّر، بعد أن جعلها ذِكرى، أي: لا يتذكرون لسبق الشقاء لهم، {والقمرِ} ، أقسم به لِعظم منافعه، {والليلِ إِذْ أدبرَ} أي: ذهب، يقال: أدبر الليل ودبر: إذا ولّى، ومنه قولهم: صاروا كأمس الدابر، وقيل: أدبر: ولّى، ودَبَر جاء بعد النهار، {والصُبحِ إِذا أسفر} ؛ أضاء وانكشف، وجواب القسم: {إِنها} أي: سقر {لإِحدَى الكُبَرِ} جمع كبرى، أي: لإحدى الدواهي أو البلايا الكُبْر، ومعنى كونها إحداهن: أنها من بينهن واحدة في العِظم لا نظيرة لها، كما تقول: هو أحد الرجال، وهي إحدى النساء. {نذيراً للبشر} : تمميز لإحدى، أي: إنها لإحدى الدواهي إنذاراً، كقولك: هي إحدى النساء جمالاً، أو حال مما دلّت عليه الجملة، أي: عظمت منذرة، {لمَن شاء منكم أن يتقدَّم أو يتأخّر} : بدل من " البشر "، بإعادة الجار، أي: نذيراً لمَن شاء منكم أن يسبق إلى الخير أو يتأخر عنه، وعن الزجاج: أن يتقدّم إلى ما أمر به، ويتأخر عما نهى عنه، وقيل: " لمَن شاء ": خبر، و " أن يتقدّم ": مبتدأ، فيكون كقوله تعالى: {فَمَن شَآءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَآءَ فَلْيَكْفُرْ} [الكهف: 29] . قال المحَشي: وحاصله: أنّ العبد متمكن من كسب الخير وضده، ولذلك كلّفه؛ لأنه علّق ذلك على مشيئته، وليس حجة؛ لكونه مستقلاً غير مجبور؛ لأنَّ مشيئته مُعلقة على مشيئة الله، {وَمَا تَشَآءُونَ إِلاَّ أَن يَشَآءَ اللهُ} [الإنسان: 30] {كَلاَّ إِنَهُ تَذْكِرَةُ فَمَن شَآءَ ذَكَرَهُ وَمَا يَذْكُرُونَ إِلاَّ أَن يَشَآءَ اللهُ} [المدثر: 54-56] ، وما نبهت عليه من التمكُّن والاختيار في الظاهر هو فائدة بدل " لمَن شاء " من البشر. هـ.
الإشارة: من أسمائه تعالى الجليل والجميل، فوَكَّل بتنفيذ اسمه الجليل جنوداً يَجرُّون الناسَ إلى أسباب جلاله، من الكفر والعصيان، ووكَّل بتنفيذ اسمه الجميل جنوداً يَجرّون الناسَ إلى أسباب جماله من الهدى والطاعة، وما جعل ذلك إلاّ اختباراً واتبلاءً، لمن يُدبر عنه أو يُقبل عليه، وما جعلنا أصحابَ نار القطيعة إلاّ ملائكة، وهم حُراس الحضرة يملكون النفس، ويقذفونها في هاوية الهوى، وما جعلنا عدتهم تسعة عشر