{وما جعلنا عِدَّتهم} تسعة عشر {إِلا فتنةً} أي: ابتلاء واختباراً {للذين كفروا} حتى قال أبو جهل ما قال، أي: وما جعلنا هذا العدد إلاّ سبب افتتانهم، فعبّر بالأثر عن المؤثّر، وليس المراد جعل ذلك العدد في نفس الأمر فتنة؛ بل جعله في القرآن أيضاً كذلك، وهو الحُكم بانّ عليها تسعة عشر، إذ بذلك يتحقق افتتانهم، وعليه يدور ما سيأتي من استيقان أهل الكتاب، وازدياد المؤمنين إيماناً. انظر أبا السعود. وقالوا في تخصيص الخزنة بهذا العدد ـ مع أنّه لا يطلب في الأعداد العلل: أنّ ستة منهم يقودون الكفرة إلى النار، وستة منهم يسوقونهم، وستة يضربونهم بمقامع من الحديد، والآخر خازن جهنّم، وهو مالك، وهو الأكبر. وقيل: في النار تسعة عشر دركاً، قد سلّط على كل درك مَلك، وقيل يُعذبون فيها بتسعة عشر لوناً من العذاب، وعلى كل لون ملك موكّل، وقيل غير ذلك.
{
لِيستيقنَ الذين أُوتوا الكتاب} ، لأنَّ عدتهم تسعة عشر في الكتابَيْن، فإذا سمعوا مثلها في القرآن تيقّنوا أنه مُنزَّل من عند الله، وهو متعلق بالجعل المذكور، أي: جعلناهم كذلك ليكتسبوا اليقين بنبوته صلى الله عليه وسلم، وصِدْقِ القرآن، لموافقته لِما في كتبهم، {ويزداد الذين آمنوا} بمحمد صلى الله عليه وسلم {إِيماناً} لتصديقهم بذلك، كما صدّقوا بسائر ما أُنزل، فيزيدون إيماناً مع إيمانهم الحاصل، أو: يزداد إيمانهم تيقُّناً؛ لما رأوا من تسليم أهل الكتاب وتصديقهم، {ولا يرتابَ الذي أوتوا الكتاب والمؤمنون} ، تأكيد لِما قبله من الاستيقان وازدياد الإيمان، ونفي لما قد يعتري المستيقن من شُبهة ما، وإنما لم ينظم المؤمنين في سلك أهل الكتاب في الارتياب، حيث لم يقل: ولا يرتابوا؛ للتنبيه على تباين النفيين حالاً، فإنَّ انتفاء الارتياب عن أهل الكتاب مما ينافيه لِما فيه من الجحود، وعن المؤمنين لما يقتضيه من الإيمان، وكم بينهما؟ والتعبير عنهم باسم الفاعل بعد ذكرهم بالموصول والصلة الفعلية المُنبئة عن الحدث؛ للإيذان بثباتهم على الإيمان بعد ازدياده ورسوخهم في ذلك. قاله أبو السعود.
وعطف على {يستيقن} ايضاً قولَه: {ولِيقولَ الذين في قلوبهم مرضٌ} ؛ شك؛ لأنَّ أهل مكة كان أكثرهم شاكين، أو: نِفاق، فيكون إخباراً بما سيكون بالمدينة بعد الهجرة، {والكافرون} ؛ المشركون بمكة، المُصرُّون على الكفر: {ماذا أراد اللهُ بهذا مثلاً} ؟ أي: أيُّ شيءٍ أراد بهذا العدد المستغرَب استغراب المثل؟ وقيل: لمّا استبعدوه حسبوا أنه مَثَل مكذوب، أو: أيُّ حكمة في جعل الملائكة تسعة عشر، لا أكثر أو أقل؟ وإيراد قولهم هذا بالتعليل، مع كونه من باب فتنتهم؛ للإشعار باستقلاله بالبشاعة. و " مثلاُ ": تمييز، أو حال، كقوله: {هَذِهِ نَاقَةُ اللهِ لَكُمْءَايَةً} [الأعراف: 73] . {كذلك يُضل اللهُ مَن يشاء ويهدي مَن يشاء} أي: مثل ذلك الضلال وتلك الهداية يُضل اللهُ مَن يشاءُ إضلاله، بصرف اختياره إلى جانب الضلال عند مشاهدته لآيات الله الناطقة بالحق،