المدح، ثم ذكر العفو في معرض المدح، فاحتمل أن يكونَ أحدهُما رافعاً للآخر، واحتمل أن يكون ذلك راجعاً إلى حالين، أحَدُهُما: أن يكون الباغي مُعلناً بالفجور وقحاً في الجمهور، ومؤذياً للصغير والكبير، فيكون الانتقامُ منه أفضل، وفي مثله قال إبراهيم النخعي: يُكره للمؤمنين أن يذلّوا أنفسهم، فيجترئ عليهم الفُسّاق. وإما أن تكون الفَلتة، أو يقع ذلك ممن يعترف بالزلة، ويسأل المغفرة، فالعفو هاهنا أفضل، وفي مثله نزل: وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوى (?) ، وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا الآية (?) . هـ.
ثم بيّن حدّ الانتصار، فقال: وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها، فالأولى سيئة حقيقة، والثانية مجازاً للمشاكلة، وفي تسميتها سيئة نكتة، وهي الإشارة إلى أن العفو أولى، والأخذ بالقصاص سيئة بالنسبة إلى العفو، ولذلك عقبه بقوله:
فَمَنْ عَفا وَأَصْلَحَ بينه وبين خصمه بالتجاوز والإغضاء فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ، وهي عِدَةٌ مبهمة لا يقادر قدرها، إِنَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ الذين يبدؤون بالظلم، أو: يتجاوزون حدّ الانتصار. وفي الحديث: «ينادي منادٍ يوم القيامة: مَن كان له أجر على الله فليقم، فلا يقوم إلا مَن عفا» (?) .
وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ أي: أخذ حقه بعد ما ظُلم- على إضافة المصدر إلى المفعول- فَأُولئِكَ جمع الإشارة مراعاة لمعنى «مَن» مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ للمعاقب ولا للمعاتب إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ يبتدئونهم بالظلم، وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ يتكبّرون فيها، ويعْلون، ويفسدون بِغَيْرِ الْحَقِّ أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ بسبب بغيهم وظلمهم. وفسّر السبيل بالتبعة والحجة.
وَلَمَنْ صَبَرَ على الظلم والأذى، وَغَفَرَ ولم ينتصر، أو: وَلَمَن صبر على البلاء من غير شكوى، وغفر بالتجاوز عن الخصم، ولا يُبقي لنفسه عليه دعوى، بل يُبري خصمه من جهته من كل دعوى في الدنيا والعقبى، إِنَّ ذلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ أي: إن ذلك الصبر والغفران منه لَمِنْ عزم الأمور، أي: من الأمور التي ندب إليها، وعزم على فعلها، أو: مما ينبغي للعاقل أن يوجبه على نفسه، ولا يترخّص في تركه. وحذف الراجع- أي: منه- كما حذف في قولهم: السمن مَنْوَانِ بدرهم. وقال أبو سعيد القرشي: الصبر على المكاره من علامات الانتباه، فمَن صبر على مكروه أصابه، ولم يجزع، أورثه الله تعالى حال الرضا، وهو أصل الأحوال ومَن جزع من المصيبات، وشَكى، وكَلَه إلى نفسه، ثم لم تنفعه شكواه. هـ. وانظر تحصيل الآية في الإشارة، إن شاء الله.
قال ابن جزي: ويظهر لي أن هذه الآية إشارة إلى ذكر الخلفاء الراشدين- رضي الله عنهم- لأنه بدأ أولاً بصفات أبي بكر الصدّيق، ثم صفات عُمَر، ثم صفات عثمان، ثم صفات عليّ بن أبي طالب، فأما صفات