فمنهم من توفرت هممهم على جمع المأثور فى تفسيره من السنة النبوية، وأقوال السلف الصالح، من الصحابة والتابعين وتابعيهم، دون إعمال للرأى، أو مع إعماله بضوابطه. ومنهم من صرف وكده فى تفسيره إلى الجانب اللغوي، فبرزت إلى الصعيد التفسيري مدارس التفسير اللغوي، والنحوي، والبلاغى، والبياني بألوانها الشائعة المعطاءة. ومنهم من آثر المتجه الكلامى العقدى، فحفل تفسيره بخوض عباب المباحث العقدية، ونصرة مذهبه على المذاهب الأخرى، فى شتى القضايا الكلامية، فكانت موسوعات تفسيرية فى هذا الجانب. ومنهم من جنح فى تفسيره إلى الجانب الفقهي المذهبى، فكان اللون المعروف بتفاسير الأحكام، وكل منها فى مذهب بعينه، وقد استخدمت فيه القواعد الأصولية. ومنهم من غلب عليه الطابع القصصى، فتوسع فى الروايات والآثار فى معالجة قصص القرآن الكريم، ما بين صحيح ودخيل.
وهكذا اتخذ المشتغلون بالتفسير طرائق قددا، ومنازع شتى، ومناهج متنوعة، ما بين تحليلي، وموضوعى، ومقارن، وتاريخى، واستقرائى. وكلها حقق للمكتبة التفسيرية ثراء حافلا فى تناول كتاب الله الخاتم، لم ينله ولم يدن منه فى تاريخ الوجود توفر على كتاب سواه، وذاك من لوازم حقيّته ومصداقيته وإعجازه.
بيد أنه- مع كل ذلك- لا يبلغ البناء التفسيري كماله وتمام مصداقيته فى تحقيق وفاء معانى التنزيل بتفسير حقائق الوجود بأسرها إلا بإعمال المنهج الصوفي الإشارى فى التفسير، وإحراز نتاج (علم الموهبة) الذي اعتده أساطين علوم القرآن الكريم وتفسيره علما أساسيا ومصدرا رئيسا للمفسر، ضمن العلوم الخمسة عشر التي يحتاج إليها المفسر، حيث ذكره الإمام السيوطي- رضى الله تعالى عنه- فى ختامها- بالإتقان- قائلا: (الخامس عشر:
علم الموهبة: وهو علم يورثه الله تعالى لمن عمل بما علم، وإليه الإشارة بحديث (?) : «من عَمِلَ بِمَا عَلِمَ ورثه الله عَلْمَ ما لم يعلم» - ثم قال: قال ابن أبى الدنيا: وعلوم القرآن وما يستنبط منه: بحر لا ساحل له.
قال: فهذه العلوم- التي كالآلة للمفسر- لا يكون مفسرا إلا بتحصيلها، فمن فسر بدونها: كان مفسرا بالرأى المنهي عنه، وإذا فسر مع حصولها لم يكن مفسرا بالرأى المنهي عنه) (?) .
أجل: إن التفسير القرآنى بدون الوقوف على الجانب الإشارى، الذي يسبر باطن العبارة القرآنية بالكشف الذوقى العرفانى، ليفتقد تلك الثمرة اليانعة، والروعة الرائعة، التي يمتن بها الحق تعالى على أوليائه العارفين، الذين طهرت قلوبهم وأرواحهم، بعد إماتة نفوسهم بسيف الجهاد الأكبر، فعلمهم الحق من لدنه علما، وأتاح لطلاب