وَقَالَ الْأُسْتَاذُ أَبُو الْمَنْصُورِ: يَجِبُ أَوَّلًا أَنْ يَكُونَ الْمَطْلُوبُ غَائِبًا عَنْ الْحِسِّ وَالضَّرُورَةِ فِيمَا يُدْرَكُ بِالْحَوَاسِّ، أَوْ الْبَدَاهَةِ لَا مَدْخَلَ لِلنَّظَرِ فِيهِ. ثُمَّ يَعْلَمُ الضَّرُورِيَّاتِ الْحِسِّيَّةَ وَالْبَدِيهِيَّةَ، وَإِلَّا لَمْ يَتَمَكَّنْ مِنْ رَدِّ الْغَائِبِ إلَى مَحْسُوسٍ أَوْ مَعْلُومٍ بِالْبَدَاهَةِ، ثُمَّ يَعْلَمُ وُجُودَ الدَّلِيلِ عَلَى مَا يَسْتَدِلُّ بِهِ عَلَيْهِ، ثُمَّ يَعْلَمُ وَجْهَ تَعَلُّقِ الدَّلِيلِ بِالْمَدْلُولِ، وَمِنْ ثَمَّ لَمْ يَصِحَّ الِاسْتِدْلَال عَلَى صِدْقِ الرَّسُولِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - بِالْقُرْآنِ الْمُعْجِزِ مَنْ لَا يَعْرِفُ وُجُودَ الْقُرْآنِ فِي الْعَالَمِ. وَلَا مَنْ عَرَفَ وُجُودَهُ، وَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّهُ ظَهَرَ عَلَى يَدَيْهِ. وَلَا مَنْ عَرَفَ ظُهُورَهُ عَلَيْهِ، وَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّهُ تَحَدَّى بِهِ الْعَرَبَ فَعَجَزُوا عَنْ مُعَارَضَتِهِ بِمِثْلِهِ.
قَالَ: وَمِنْ شَرْطِهِ إذَا كَانَ دَلِيلُهُ يَدُلُّ عَلَى شَيْئَيْنِ فَأَكْثَرَ أَنْ يُجْرِيَهُ فِيهِمَا، فَأَمَّا أَنْ يَسْتَدِلَّ بِهِ فِي أَحَدِ مَدْلُولَيْهِ وَيَمْنَعَ مِنْ الِاسْتِدْلَالِ بِهِ فِي الْآخَرِ، فَإِنَّهُ مُفْسِدٌ لِلدَّلِيلِ عَلَى غَيْرِ نَفْسِهِ، وَلِهَذَا لَمْ يَصِحَّ اسْتِدْلَالُ الْمُعْتَزِلَةِ عَلَى أَنَّ اللَّهَ عَالِمٌ بِأَفْعَالِهِ الْمُحْكَمَةِ؛ لِأَنَّ الْمُحْكَمَاتِ كَمَا دَلَّتْ عَلَى كَوْنِ فَاعِلِهَا عَالِمًا دَلَّتْ عَلَى أَنَّ لَهُ عِلْمًا. فَإِذَا لَمْ يُجْرُوا هَذِهِ الدَّلَالَةَ فِي عِلْمِ الْبَارِي لَمْ يَصِحَّ اسْتِدْلَالُهُ بِهَا عَلَى كَوْنِهِ عَالِمًا.
قُلْت: وَمِنْهُ اسْتِدْلَالُ الْحَنَفِيَّةِ عَلَى صِحَّةِ بَيْعِ الْفُضُولِيِّ بِحَدِيثِ عُرْوَةَ الْبَارِقِيِّ، وَلَا يَصِحُّ لِأَنَّ عِنْدَهُمْ لَيْسَ لَهُ الْإِقْبَاضُ. وَالْحَدِيثُ كَمَا دَلَّ عَلَى جَوَازِ الْعَقْدِ دَلَّ عَلَى جَوَازِ الْإِقْبَاضِ. فَإِذَا لَمْ يَسْتَدِلُّوا بِهِ عَلَى عَدَمِ امْتِنَاعِ الْإِقْبَاضِ لَمْ يَصِحَّ اسْتِدْلَالُهُمْ عَلَى جَوَازِ الْعَقْدِ. وَإِذَا اجْتَمَعَتْ هَذِهِ الشُّرُوطُ كَانَ النَّظَرُ مُثْمِرًا لِلْعِلْمِ وَمُنْتِجًا لَهُ، وَإِنْ أَخَلَّ بِشَيْءٍ مِنْهَا كَانَ فَاسِدًا، وَلَمْ