الْقَيْدِ، إذْ لَيْسَ مِنْ ذَلِكَ رَفْعُ الْحُكْمِ، لِأَنَّ الرَّفْعَ إنَّمَا يَكُونُ بَعْدَ الثُّبُوتِ، وَلَيْسَ شَيْءٌ مِنْهَا ثُبُوتَ الْحُكْمِ، لِأَنَّهَا تَخْصِيصَاتٌ. وَهُوَ يُبَيِّنُ أَنَّهُ غَيْرَ مُرَادٍ. وَقَوْلُنَا: بِخِطَابٍ أَيْ بِحَيْثُ لَوْ لَمْ يُرِدْ الثَّانِي، لَكَانَ حُكْمُ الْأَوَّلِ بَاقِيًا. وَمَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ كَوْنِ النَّسْخِ رَفْعًا هُوَ مُخْتَارُ الصَّيْرَفِيِّ، وَالْقَاضِي أَبِي بَكْرٍ، وَالشَّيْخِ أَبِي إِسْحَاقَ، وَالْغَزَالِيِّ، وَالْآمِدِيَّ، وَابْنِ الْحَاجِبِ، وَابْنِ الْإِبْيَارِيِّ، وَهُوَ الْمُخْتَارُ. وَقَدْ أَنْكَرَهُ أَكْثَرُ الْفُقَهَاءِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْحُكْمَ رَاجِعٌ إلَى كَلَامِ اللَّهِ. وَهُوَ قَدِيمٌ، وَالْقَدِيمُ لَا يُرْفَعُ وَلَا يُزَالُ. وَأُجِيبَ بِأَنَّ الْمَرْفُوعَ تَعَلُّقُ الْحُكْمِ النِّسْبِيِّ لَا ذَاتُهُ وَلَا تَعَلُّقُهُ الذَّاتِيُّ. وَقَالَ بَعْضُ شَارِحِي " الْبُرْهَانِ ": الْحَقُّ مَا ذَكَرَهُ الْقَاضِي مِنْ أَنَّهُ الرَّفْعُ، وَلَا يَلْزَمُهُ مَا أَلْزَمَهُ الْإِمَامُ مِنْ التَّنَاقُضِ فِي التَّعَلُّقِ. فَإِنَّ الْقَاضِيَ بَنَى عَلَى أَصْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْأَمْرَ يُفَارِقُ الْإِرَادَةَ.
وَثَانِيهِمَا: أَنَّ الْكَلَامَ الْقَدِيمَ يَتَعَلَّقُ بِمُتَعَلِّقَاتٍ مُخْتَلِفَةٍ عَلَى الِاتِّحَادِ فِي نَفْسِهِ، وَالِاخْتِلَافُ رَاجِعٌ إلَى التَّعَلُّقِ، فَالْأَمْرُ عِبَارَةٌ عَنْ الطَّلَبِ الْقَائِمِ بِذَاتِ الْبَارِّي سُبْحَانَهُ، فَقَدْ يَتَعَلَّقُ بِالْمَطْلُوبِ عَلَى الدَّوَامِ قَطْعًا، وَتَكُونُ الْإِرَادَةُ غَيْرَ ذَلِكَ، وَقَدْ يَتَعَلَّقُ بِالْمَطْلُوبِ نَفْسِهِ فِي بَعْضِ الْأَزْمَانِ، وَيَكُونُ هَذَا التَّعَلُّقُ بَيَانًا لِلْإِرَادَةِ وَالْعِلْمِ، أَنَّهُ لَمْ يُرَدْ الدَّوَامُ وَإِنَّمَا أُرِيدَ بَعْضُ الْأَزْمِنَةِ، وَلَمْ يَتَعَلَّقْ الْعِلْمُ بِالدَّوَامِ، وَلَا تَنَاقُضَ فِي تَعَلُّقِ الطَّلَبِ بِمُتَعَلِّقٍ وَاحِدٍ عَلَى صِفَتَيْنِ فِي وَقْتَيْنِ، مَطْلُوبًا عَلَى التَّأْبِيدِ فِي الْوَقْتِ، وَفِي بَعْضِ الْأَزْمَانِ فِي وَقْتٍ آخَرَ لَمْ يَخْتَلِفْ. وَإِنَّمَا اخْتَلَفَ التَّعَلُّقُ وَالزَّمَانُ.
وَإِنَّمَا يَسْتَحِيلُ هَذَا أَنْ لَوْ كَانَ الْمُخَاطَبُ يَفْهَمُ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ،