فَإِذَا قِيلَ هَذَا مَنْقُوضٌ بِالْعِلْمِ بِالْوَاجِبَاتِ وَالْمُحَالَاتِ، فَإِنَّهُ عِلْمٌ وَلَا يُفِيدُ أَحْكَامًا، فَهَذَا النَّقْضُ إنَّمَا يَسْلَمُ بَعْدَ تَسْلِيمِ وُجُودِ الْعِلْمِ الْمُتَعَلِّقِ بِالْمُحَالَاتِ. فَلَوْ لَمْ تَسْلَمْ هَذِهِ الدَّعْوَى لَمْ يُمْكِنْ تَوَجُّهُ النَّقْضِ إلَيْهِ. قَالَ: وَكَذَا الْمُعَارَضَةُ لَا يُمْكِنُ الْقَدَحُ بِهَا فِي الْحَدِّ إلَّا عِنْدَ تَسْلِيمِ الدَّعْوَى، وَإِلَّا فَالْحَقَائِقُ غَيْرُ مُتَعَانِدَةٍ فِي مَاهِيَّاتِهَا، فَإِنَّ مَنْ عَارَضَ هَذَا الْحَدَّ بِأَنَّهُ الِاعْتِقَادُ الْمُقْتَضِي سُلُوكَ النَّفْسِ فَلَيْسَ بَيْنَ هَاتَيْنِ الْحَقِيقَتَيْنِ تَعَانُدٌ، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ بَيْنَ الْحَقِيقَتَيْنِ مُنَافَاةٌ لَمْ تَتَحَقَّقْ الْمُعَارَضَةُ فِي الْحُدُودِ.
الْقَاعِدَةُ الثَّانِيَةُ: وَهِيَ فِي الْحَقِيقَةِ مَبْنِيَّةٌ عَلَى مَا قَبْلَهَا أَنَّ الْحَدَّ لَا يُمْنَعُ، فَإِنَّ الْمَنْعَ يُشْعِرُ بِطَلَبِ الدَّلِيلِ، وَالْفَرْضُ أَنَّهُ لَا يُبَرْهَنُ عَلَيْهِ فَلَا مَعْنَى لِلْمَنْعِ، وَبَيَانُ عَدَمِ الْإِمْكَانِ أَنَّهُ فِي إقَامَةِ الدَّلِيلِ عَلَيْهِ يَفْتَقِرُ إلَى إثْبَاتِ مُقَدِّمَتَيْنِ. ثُمَّ فِي إثْبَاتِ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا يَفْتَقِرُ إلَى إثْبَاتِ مُقَدِّمَتَيْنِ أُخْرَيَيْنِ، وَهَكَذَا إلَى غَيْرِ نِهَايَةٍ، فَيَلْزَمُ إمَّا الدَّوْرُ أَوْ التَّسَلْسُلُ، وَهُمَا بَاطِلَانِ، وَقَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ تَيْمِيَّةَ: يَجُوزُ مَنْعُ الْحَدِّ؛ لِأَنَّهُ دَعْوَى فَجَازَ أَنْ يُصَادَمَ بِالْمَنْعِ كَغَيْرِهِ مِنْ الدَّعَاوَى. وَفِيمَا قَالَهُ نَظَرٌ، فَإِنَّ مَرْجِعَ الْمَنْعِ طَلَبُ الْبُرْهَانِ، وَهُوَ لَا يُمْكِنُ عَلَى مَا قَرَّرُوهُ، وَلَيْسَ كُلُّ دَعْوَى تُصَادَمُ بِالْمَنْعِ بِدَلِيلِ الْأَوَّلِيَّاتِ، فَإِنَّ الْكَلَامَ إذَا انْتَهَى إلَيْهَا وَجَبَ الْوُقُوفُ عِنْدَهَا، وَلَمْ يُسْمَعْ مَنْعُهَا. وَقَالَ الْجَاجَرْمِيُّ فِي رِسَالَتِهِ " إنَّ هَذَا يَنْشَأُ عَنْ حَدِّ الْحَدِّ مَا هُوَ؟ حَتَّى يُنْظَرَ فِيهِ أَنَّهُ هَلْ يُمْنَعُ أَمْ لَا؟ وَالْحَدُّ قَدْ يَكُونُ حَقِيقِيًّا وَقَدْ يَكُونُ رَسْمِيًّا.