التَّحْدِيدِ فِي اصْطِلَاحِ الْمُتَكَلِّمِينَ: الْفَرْقُ بِخَاصَّةِ الشَّيْءِ وَحَقِيقَتِهِ الَّتِي يَقَعُ بِهَا الْفَصْلُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ غَيْرِهِ. اهـ. وَلِهَذَا كَانَ الِاضْطِرَادُ وَالِانْعِكَاسُ لَا يَتِمُّ الْحَدُّ إلَّا بِهِمَا. وَأَمَّا الْمَنَاطِقَةُ فَقَالُوا: إنَّ فَائِدَةَ الْحَدِّ التَّصْوِيرُ، وَبَنَوْا عَلَى ذَلِكَ أُمُورًا سَتَأْتِي. قَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ تَيْمِيَّةَ فِي كِتَابِ الرَّدِّ عَلَيْهِمْ: وَاَلَّذِي عَلَيْهِ جَمِيعُ الطَّوَائِفِ أَنَّ فَائِدَتَهُ التَّمْيِيزُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ غَيْرِهِ، وَهُوَ قَوْلُ الْأَشْعَرِيَّةِ وَالْمُعْتَزِلَةِ وَغَيْرِهِمْ مِمَّنْ صَنَّفَ فِي هَذَا الْبَابِ مِنْ أَتْبَاعِ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ. بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يُجَوِّزُ الْحَدَّ إلَّا بِمَا يُمَيِّزُ الْمَحْدُودَ، لَكِنَّهُ لَمْ يَهْتَدِ إلَى مَا صَارَ إلَيْهِ أَئِمَّةُ الْكَلَامِ فِي هَذَا الْمَقَامِ، وَهُوَ مَوْضِعٌ شَرِيفٌ يَنْبَغِي الْإِحَاطَةُ بِهِ فَإِنَّ بِسَبَبِ إهْمَالِهِ دَخَلَ الْفَسَادُ فِي الْمَعْقُولِ وَالْأَدْيَانِ عَلَى كَثِيرٍ، إذْ خَلَطُوا مَا ذَكَرَهُ الْمَنْطِقِيُّونَ فِي الْحُدُودِ بِالْعُلُومِ النَّبَوِيَّةِ، وَصَارُوا يُعَظِّمُونَ أَمْرَ الْحُدُودِ، وَنَحْنُ نُبَيِّنُ أَنَّ الْحُدُودَ لَا تُفِيدُ تَصْوِيرَ الْحَقَائِقِ، وَطُولُ الْكَلَامِ فِي ذَلِكَ مِمَّا يُوقَفُ عَلَيْهِ مِنْ كَلَامِهِ.
قُلْت: وَبَنَى الْمَنْطِقِيُّونَ عَلَى هَذَا الْأَصْلِ قَوَاعِدَ: إحْدَاهَا: قَالُوا: الْحَدُّ لَا يُكْتَسَبُ بِالْبُرْهَانِ أَيْ لَا يُمْكِنُ تَحْصِيلُهُ بِبُرْهَانٍ وَعَقَدُوا الِاسْتِدْلَالَ عَلَيْهِ بِمَا حَاصِلُهُ: أَنَّ الْبُرْهَانَ إنَّمَا يَكُونُ فِي الْقَضَايَا الَّتِي فِيهَا حُكْمٌ، وَالْحَدُّ لَا حُكْمَ فِيهِ؛ لِأَنَّهُ تَصَوُّرٌ، وَهَذَا الْإِطْلَاقُ مَمْنُوعٌ بَلْ الْحَقُّ أَنَّا إذَا قُلْنَا: الْإِنْسَانُ مَثَلًا حَيَوَانٌ نَاطِقٌ فَلَهُ أَرْبَعُ اعْتِبَارَاتٍ: أَحَدُهَا: تَعْرِيفُ الْمَاهِيَّةِ، وَهُوَ تَصَوُّرٌ لَا حُكْمَ فِيهِ فَلَا يُسْتَدَلُّ عَلَيْهِ وَلَا يُمْنَعُ. ثَانِيهَا: دَعْوَى الْحَدِّيَّةِ، وَهَذَا يُمْنَعُ وَيُسْتَدَلُّ بِبَيَانِ صَلَاحِيَةِ هَذَا الْحَدِّ