ومن قائل: لا يشترط سفر القربة، بل لا بدّ أن يكون مباحًا، لقوله: {فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ} الآية [المائدة: 3]، كما أباح له تناول الميتة مع الاضطرار، بشرط أن لا يكون عاصيًا بسفره، وهذا قول الشافعيّ، وأحمد، وغيرهما من الأئمة.
وقد قال أبو بكر بن أبي شيبة: حدّثنا وكيع عن الأعمش، عن إبراهيم، قال: جاء رجل، فقال: يا رسول اللَّه إني رجل تاجرٌ، أختَلِف إلى البحرين، فأمره أن يصلي ركعتين، فهذا مرسل.
ومن قائل: يكفي مطلق السفر، سواءٌ كان مباحًا أو محظورًا حتى لو خرج لقطع الطريق، وإخافة السبيل تَرَخَّص؛ لوجود مطلق السفر، وهذا قول أبي حنيفة، والثوريّ، وداود، لعموم الآية، وخالفهم الجمهور.
قال الجامع عفا اللَّه عنه: قد تقدّم أن ما ذهب إليه أبو حنيفة، والثوريّ، وداود هو الأرجح؛ لقوّة أدلّته، فتبصّر، واللَّه تعالى أعلم.
وأما قوله تعالى: {إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا}، فقد يكون هذا خرج مخرج الغالب حال نزول هذه الآية، فإن في مبدأ الإسلام بعد الهجرة كان غالب أسفارهم مَخُوفةٌ، بل ما كانوا يَنهَضون إلا إلى غزو عامّ، أو في سريّة خاصة، وسائر الأحيان حَرْبٌ للإسلام وأهله، والمنطوق إذا خرج مخرج الغالب، أو على حادثة فلا مفهوم له، كقوله تعالى: {وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا} [النور: 33]، وكقوله تعالى: {وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ} الآية [النساء: 23].
ثم ساق أحاديث القصر المذكورة في هذا الباب، ثم قال: فهذه الأحاديث دالةٌ صريحًا على أن القصر ليس من شرطه وجودُ الخوف، ولهذا قال من قال من العلماء: إن المراد من القصر ها هنا إنما هو قصر الكيفية لا الكمية، وهو قول مجاهد، والضحاك، والسُّدّيّ كما سيأتي بيانه، واعتَضَدُوا أيضًا بحديث عائشة -رضي اللَّه عنها- أنها قالت: "فُرِضت الصلاة ركعتين ركعتين في السفر والحضر، فأُقِرَت صلاة السفر، وزيد في صلاة الحضر"، متّفقٌ عليه.
قالوا: فإذا كان أصل الصلاة في السفر هي الثنتين، فكيف يكون المراد