الأصل هو الإتمام، والقصر رخصة، جاءت مقيَّدةً لضرورة، فعند انتفاء القيد مُقتَضَى الأدلّة هو الأخذ بالأصل.
[قلت]: هذا الأصل إنما يُعمَل به عند انتفاء الأدلّة، وأما مع وجود فعل النبيّ -صلى اللَّه عليه وسلم- بخلافه، فلا عبرة به، ولا يُتعجّب من خلافه، فليُتأمّل. انتهى كلام السنديّ -رَحِمَهُ اللَّهُ-.
وقال الإمام ابن القيم -رَحِمَهُ اللَّهُ-: قد أشكلت الآية على عمر وغيره، فسأل عنها رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، فأجابه بالشفاء، وأن هذا صدقة من اللَّه، وشَرْعٌ شرعه للأمة، وكان هذا بيانَ أن حكم المفهوم غير مراد، وأن الْجُنَاح مرتفع في قصر الصلاة عن الآمن والخائف، وغايته أنه نوع تخصيص للمفهوم، أو رفع له. انتهى.
وقال السنديّ -رَحِمَهُ اللَّهُ-: الأمر يقتضي وجوب القبول، وأيضًا العبد فقير، فإعراضه عن صدقة ربه يكون منه قبيحًا، ويكون من قبيل {أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى (7)} [العلق: 7]، وفي ردّ صدقة أحد عليه من التأذِّي عادةً ما لا يخفى، فهذه من أمارات الوجوب، فتأمل، واللَّه تعالى أعلم. انتهى.
قال الجامع عفا اللَّه عنه: قد تقدّم أن القول بوجوب القصر على المسافر هو الأرجح؛ لقوّة أدلّته، ولكن لا يلزم منه بطلان صلاة من أتمّ للتأويل، أو نحوه؛ لما أسلفناه من الأدلّة على ذلك، فتنبّه، واللَّه تعالى أعلم.
وقال الإمام ابن كثير -رَحِمَهُ اللَّهُ- في "تفسيره": يقول تعالى: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ} [النساء: 101] أي: سافرتم في البلاد، كما قال تعالى: {عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ} الآية [المزمل: 20]، وقوله: {فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ} [النساء: 101]؛ أي: تخففوا فيها إما من كميتها بأن تُجْعَل الرباعية ثنائية، كما فهمه الجمهور من هذه الآية، واستدلوا بها على قصر الصلاة في السفر على اختلافهم في ذلك.
فمن قائل: لا بدّ أن يكون سفر طاعة، من جهاد، أو حجّ، أو عمرة، أو طلب علم، أو زيارة، أو غير ذلك، كما هو مرويّ عن ابن عمر، وعطاء، ويحيى، عن مالك، في رواية عنه نحوه، لظاهر قوله: {إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا} [النساء: 101].