فهل تخافون أنتم؟ وقد قيل في تأويل عائشة: إنما أتمت في سفرها إلى البصرة إلى قتال عليّ -رضي اللَّه عنه-، والقصر عندها إنما يكون في سفر طاعة، وهذان القولان باطلان، لا سيما الثاني، ولعل قول عائشة -رضي اللَّه عنها- هذا هو السبب في حديث حارثة بن وهب -رضي اللَّه عنه- قال: "صلّى بنا النبيّ -صلى اللَّه عليه وسلم- آمن ما كان بمنى ركعتين"، متّفقٌ عليه، ولفظ مسلم: "قال: صليت مع رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- بمنى، آمن ما كان الناس وأكثره ركعتين".
وقال القرطبيّ -رَحِمَهُ اللَّهُ-: اختُلف في تأويل إتمام عائشة وعثمان -رضي اللَّه عنهم- في السفر على أقوال، وأولى ما قيل في ذلك أنهما تأوّلا أن القصر رُخصةٌ غير واجبة، وأخذا بالأكمل، وما عدا هذا القول إما فاسدٌ، وإما بعيدٌ، ولنذكُر ما قيل في ذلك:
(فمنها): أن عائشة تأوّلت أنها أمّ المؤمنين، فحيثُ حلّت نزلت في أهلها وولدها، وهذا يَبطُلُ بما بين المنزلتين من المسافات البعيدة، فإنها كانت تُتمّ فيها، وهي على ظهر سفر.
(ومنها): أنها كانت لا ترى القصر إلا في الحجّ والعمرة والغزو، وذلك باطلٌ؛ لأن ذلك لم يُنقل عنها، ولا عُرف من مذهبها، ثم قد أتمّت في سفرها إلى عليّ -رضي اللَّه عنهما-.
(ومنها): أنها حيث أتمّت لم تكن في سفر جائز، وهذا باطلٌ قطعًا، فإنها كانت أتقى للَّه، وأخوف، وأطوع من أن تخرُج في سفر لا يرضاه اللَّه تعالى، وهذا التأويل عليها من أكاذيب الشيعة المبتدعة، وتشنيعاتهم عليها: {سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ} [النور: 16]، وإنما خرجت -رضي اللَّه عنها- مجتهدةً محتسبةً في خروجها، تريد أن تُطفئ نار الفتنة، ثم خرجت الأمور عن الضبط، وأقلّ درجاتها أن تكون ممن قال فيها رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "إذا اجتهد الحاكم، فأصاب فله أجران، وإن أخطأ، فله أجر".
قال: وأما عثمان -رضي اللَّه عنه- فقد تُؤُوّل له أنه كان إمام الناس، فحيث حلّ فهو بمنزلتهم، وهذا يردّه أن النبيّ -صلى اللَّه عليه وسلم- كان أولى بذلك، ومع ذلك فلم يفعله.
(ومنها): أنه كان معه أهله بمكة، وهذا يردّه أن النبيّ -صلى اللَّه عليه وسلم- سافر بزوجاته، وكنّ معه بمكة، ومع ذلك قصر.