ورأيت فيما علّقه بعض شيوخنا من أهل الحديث يذكر أن حديثي أبي هريرة وعمران قصة واحدة، وتأول قوله في حديث عمران: "سلّم في ثلاث" أي في ابتداء ثلاث ركعات، وتأول قوله: "فقضى تلك الركعة" على أنه أراد أكثر منها، كما يقال: "كلمة" للخطبة، والقصيدة.
وفي ذلك كله نظر لا يخفى، بل الظاهر أنهما قضيتان، كما قال الجمهور، وما ذكره من الجمع بينهما فبعيد، لا اتجاه له. انتهى كلام العلائيّ -رَحِمَهُ اللَّهُ-، وهو بحث نفيس جدًّا.
قال الجامع عفا اللَّه عنه: قد تبيّن بما سبق أن الراجح أن قصّة أبي هريرة غير قصّة عمران بن حصين -رضي اللَّه عنهم- الآتية؛ لوضوح الفرق بينهما، كما مرّ تحقيقه في كلام ابن خزيمة آنفًا، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة السادسة): تقدم في ألفاظ طرق حديث أبي هريرة -رضي اللَّه عنه- تباينٌ في مواضع عديدة، لا يمكن الجمع بينها، والكلّ في الصحيح، وترتب عليها فوائد فقهية مما اختلف فيه العلماء.
ففي بعض الطرق أن النبيّ -صلى اللَّه عليه وسلم- قال لذي اليدين: "لم أَنْسَ، ولم تُقصَر"، فقال ذو اليدين بعد ذلك: بلى قد نسيتَ، ولم تُذكَر هذه الزيادة في كثير من الروايات.
وفي رواية أخرى، فقال النبيّ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "كلّ ذلك لم يكن"، فقال ذو اليدين: قد كان بعض ذلك يا رسول اللَّه.
وفي رواية: أن النبيّ -صلى اللَّه عليه وسلم- قال للناس: "ما يقول ذو اليدين؟ " قالوا: صدق يا رسول اللَّه، لم تُصلِّ إلا ركعتين.
وفي رواية أخرى: فأقبل رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- على الناس، فقال: "أصدق ذو اليدين؟ "، فقالوا: نعم يا رسول اللَّه. وفي رواية أخرى: فأومؤوا: أي نعم.
وقد جمع بعض الأئمة بين هاتين الروايتين بأن بعض الناس أجاب النبيّ -صلى اللَّه عليه وسلم- بقول "نعم" باللفظ، وبعضهم أجابه بالإيماء.
وهذا الجمع إنما يَقْوَى إذا كان الاختلاف واقعًا من رواية صحابيين، فنقول: سمع أحدهما الإجابة باللفظ، والآخر رأى الذين أومأوا ولم يسمع المجيب باللفظ، وهذا الحديث بهذه الألفاظ مداره على أبي هريرة -رضي اللَّه عنه-.