فقيل: قوله: "لم أنس" نفي للنسيان، ولا يلزم منه نفي السهو، وهذا قول من فرّق بينهما، وهو مردود، ويكفي في ردّه قوله في الحديث: "بلى قد نسيتَ"، وأقرّه على ذلك.
وقيل: قوله: "لم أنسَ" على ظاهره، وحقيقته، وكان يتعمّد ما يقع منه من ذلك ليقع التشريع منه بالفعل، لكونه أبلغ من القول.
وتُعُقّب بحديث ابن مسعود -رضي اللَّه عنه- الماضي: "إنما أنا بشر أنسى كما تنسون"، فأثبت العلة قبل الحكم، وقيَّد الحكم بقوله: "إنما أنا بشر"، ولم يكتف بإثبات وصف النسيان حتى دفع قول من عساه يقول: ليس نسيانه كنسياننا، فقال: "كما تنسون".
وبهذا الحديث يردّ أيضًا قول من قال: معنى قوله: "لم أنسَ" إنكارٌ للّفظ الذي نفاه عن نفسه، حيث قال: "إني لا أنسى، ولكن أُنَسَّى"، وإنكارٌ للّفظ الذي أنكره على غيره، حيث قال: "بئسما لأحدكم أن يقول: نَسِيتُ آية كذا وكذا".
وقد تعقبوا هذا أيضًا بأن حديث: "إني لا أَنْسَى"، لا أصل له، فإنه من بلاغات مالك التي لم توجد موصولة بعد البحث الشديد، وأما الآخر فلا يلزم من ذمّ إضافة نسيان الآية ذمّ إضافة نسيان كلّ شيء، فإن الفرق بينهما واضح جدًّا.
وقيل: إن قوله: "لم أنسَ" راجع إلى السلام، أي سلّمت قصدًا بانيًا على ما في اعتقادي أني صلّيت أربعًا، وهذا جيّد، وكأن ذا اليدين فهم العموم، فقال: "بلى قد نسيت"، وكان هذا القول أوقع شكًّا احتاج معه إلى استثبات الحاضرين.
وبهذا التقرير يندفع إيراد مَن استشكل كون ذي اليدين عدلًا، ولم يُقبَل خبره بمفرده، فسبب التوقف فيه كونه أخبر عن أمر يتعلق بفعل المسؤول، مُغَايِرٍ لما في اعتقاده.
وبهذا يجاب مَن قال: إن من أخبر بأمر حسّيّ بحضرة جمع، لا يَخفَى عليهم، ولا يجوز عليهم التواطؤ، ولا حاملَ لهم على السكوت عنه، ثم لم يُكَذِّبُوه أنه لا يقطع بصدقه، فإن سبب عدم القطع كون خبره معارَضًا باعتقاد المسؤول خلاف ما أخبر به.