(قَالَ) -صلى اللَّه عليه وسلم- ("الْمَسْجِدُ الْأَقْصَى") يعني مسجدَ بيت المقدس، قيل له: الأقصى؛ لبعد المسافة بينه وبين الكعبة، وقيل: لأنه لم يكن وراءه موضع عبادة، وقيل: لبعده عن الأقذار والخبائث، والْمُقَدَّسُ: المطهر عن ذلك.
قال أبو ذرّ -رضي اللَّه عنه- (قُلْتُ: كَمْ بَيْنَهُمَا؟ ) أي كم مدّةً بين وضع المسجدين؟ (قَالَ) -صلى اللَّه عليه وسلم- ("أَرْبَعُونَ سَنَةً) قال ابن القيّم -رَحِمَهُ اللَّهُ-: وقد أشكل هذا الحديث على من لم يَعرف المراد به، فقال: معلوم أن سليمان بن داود هو بنى المسجد الأقصى، وبينه وبين إبراهيم أكثر من ألف عام، قال: وهذا جهل من هذا القائل؛ فإن سليمان إنما كان له من المسجد الأقصى تجديده، لا تأسيسه، والذي أسّسه يعقوب بن إسحاق -صلى اللَّه عليهما وآلهما وسلّم- بعد بناء إبراهيم -عليه السلام- الكعبة بهذا المقدار. انتهى (?).
وقال في "الفتح": قال ابن الجوزيّ -رَحِمَهُ اللَّهُ-: فيه إشكال؛ لأن إبراهيم -عليه السلام- بَنَى الكعبة، وسليمان -عليه السلام- بنى بيت المقدس، وبينهما أكثر من ألف سنة. انتهى.
قال الحافظ -رَحِمَهُ اللَّهُ-: ومُسْتَنَدُه في أن سليمان -عليه السلام- هو الذي بَنَى المسجد الأقصى، ما رواه النسائيّ من حديث عبد اللَّه بن عمرو بن العاص -رضي اللَّه عنهما- مرفوعًا بإسناد صحيح: "أن سليمان -عليه السلام- لَمّا بنى بيت المقدس، سأل اللَّه تعالى خِلالًا ثلاثًا. . . " الحديث، وفي الطبرانيّ من حديث رافع بن عميرة: "أن داود -عليه السلام- ابتدأ ببناء بيت المقدس، ثم أوحى اللَّه إليه إني لأقضي بناءه على يد سليمان"، وفي الحديث قصّةٌ. انتهى.
قال: وجوابه أن الإشارة إلى أوّل البناء، ووضع أساس المسجد، وليس إبراهيم أول من بنى الكعبة، ولا سليمان أول من بَنَى بيت المقدس، فقد رَوَينا أن أول مَن بَنَى الكعبة آدم، ثم انتشر ولده في الأرض، فجائز أن يكون بعضهم قد وَضَعَ بيت المقدس، ثم بنى إبراهيم الكعبة بنصّ القرآن، وكذا قال القرطبيّ: إن الحديث لا يدلّ على أن إبراهيم وسليمان لَمّا بنيا المسجدين ابتدءا وضعهما لهما، بل ذلك تجديد لِمَا كان أسسه غيرهما.