بين هاتين الحائطين، يعني مسجد الكوفة الأعظم، وعن النعمان بن قيس، قال: كُنّ النساء إذا مررن على عَبِيدة، وهو يصلّي قُلْن: خففوا، فإنها صلاة عَبِيدة، يعني مِن خفتها، رواها كلها ابن أبي شيبة.

وحَكَى ابن حزم في "الْمُحَلَّى" عن عمرو بن ميمون أنه قال: لو أن رجلًا أخذ شاة عزوزًا لم يفرُغ من لبنها حتى أُصلي الصلوات الخمس، أُتِمُّ ركوعها وسجودها، والْعَزُوز -بالعين المهملة، والزاي المعجمة المكررة-: الضيِّقة الإحليل، وعن علقمة: لو أُمر بذبح شاة، فأُخذ في سَلْخها لصلّيت الصلوات الخمس في تمام قبل أن يُفْرَغ منها.

ويَحْتَمِل أن ابن أبي شيبة إنما بَوّب تخفيف الصلاة مع الانفراد، أو مع إمامة المحصورين، فذكر فيه من كان يؤثر تخفيفها، ولو مع هذه الحالة، فنقله الترمذيّ إلى أئمة العامة، وأولئك لا خلاف فيهم كما تقدم. انتهى كلام العراقيّ -رَحِمَهُ اللَّهُ- (?)، وهو بحث نفيس، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الخامسة): المراد من الأمر بتخفيف الصلاة -كما قال أهل العلم- أن يكون بحيث لا يُخِلّ بسننها ومقاصدها، ففي "الصحيحين" عن أنس -رضي اللَّه عنه- قال: "كان رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- يأمرنا بالتخفيف، ويؤمّنا بالصّافّات".

وقال العلّامة ابن القيّم -رَحِمَهُ اللَّهُ-: إذا أمرهم بالتخفيف، وأمرهم أن يصلّوا كصلاته في قوله: "صلُّوا كما رأيتموني أُصلّي"، عُلِمَ بالضرورة أن الذي كان يفعله هو الذي أَمَرَ به، يوضّح ذلك أنه ما من فعل في الغالب إلا ويُسمّى تخفيفًا بالنسبة إلى ما هو أطول منه، ويُسمّى تطويلًا بالنسبة إلى ما هو أخفّ منه، فلا حدّ له في اللغة يُرجَع إليه، وليس من الأفعال المعروفة التي يُرْجَع فيها إلى العرف كالْحِرْز، والقَبْض، وإحياء الموات، والعباداتُ ترجع إلى الشارع في مقدارها، وصفاتها، وهيآتها، كما يُرجَع إليه في أصلها، فلو جاز الرجوع في ذلك إلى عرف الناس وعوائدهم في مسمّى التخفيف والإيجاز لاختلفت أوضاع الصلاة ومقاديرها اختلافًا بيِّنًا لا ينضبط.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015