وأما ما رواه مسلم في حديث جابر الطويل المذكور في أواخر الكتاب أنه الذي قَطَع الغصنين، فهو في قصة أخرى غير هذه، فالمغايرة بينهما من أوجه:
(منها): أن هذه كانت في المدينة، وكان معه - صلى الله عليه وسلم - جماعة، وقصة جابر كانت في السفر، وكان خرج لحاجته، فتبعه جابر وحده.
(ومنها): أن في هذه القصة أنه - صلى الله عليه وسلم - غَرَس الجريدة بعد أن شَقّها نصفين، وفي حديث جابر أنه - صلى الله عليه وسلم - أمر جابرًا بقطع غصنين من شجرتين، كان النبيّ - صلى الله عليه وسلم - استتر بهما عند قضاء حاجته، ثم أمر جابرًا، فألقى الغصنين عن يمينه وعن يساره، حيث كان النبيّ - صلى الله عليه وسلم - جالسًا، وأن جابرًا سأله عن ذلك؟ فقال: "إني مررت بقبرين يعذبان، فأحببت بشفاعتي أن يُرْفَع عنهما ما دام الغصنان رطبين"، ولم يذكر في قصة جابر أيضًا السبب الذي كانا يعذبان به، ولا الترجي الذي في قوله هنا: "لعله"، فبان تغاير حديث ابن عباس وحديث جابر - رضي الله عنهم -، وأنهما كانا في قصتين مختلفتين، ولا يبعد تعدد ذلك.
وقد رَوَى ابن حبان في "صحيحه" من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أنه - صلى الله عليه وسلم - مَرّ بقبر، فوقف عليه، فقال: "ائتوني بجريدتين، فجعل إحداهما عند رأسه، والأخرى عند رجليه"، فيحتمل أن تكون هذه قصة ثالثة، ويؤيده أن في حديث أبي رافع: فسمع شيئًا في قبر، وفيه: فكسرها باثنين، ترك نصفها عند رأسه، ونصفها عند رجليه، وفي قصة الواحد: جعل نصفها عند رأسه، ونصفها عند رجليه، وفي قصة الاثنين: جعل على كل قبر جريدةً. انتهى ما في "الفتح"، وهو تحقيقٌ نفيسٌ، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة الخامسة): في اختلاف العلماء في معنى قوله - صلى الله عليه وسلم -: "لعله أن يُخفّف عنهما":
قال المازريّ رحمه الله: يَحْتَمِل أن يكون أوحي إليه - صلى الله عليه وسلم - أن العذاب يخفف عنهما هذه المدة. انتهى.
وعلى هذا فـ"لعلّ" هنا للتعليل، قال: ولا يظهر له وجه غير هذا.
وتعقبه القرطبي بأنه لو حصل الوحي لما أتى بحرف الترجي، كذا قال، ولا يَرِد عليه ذلك إذا حملناها على التعليل.