[فإن قلت]: كان من عادته - صلى الله عليه وسلم - التباعد في المذهب، وقد روى أصحاب السنن بسند حسن، عن المغيرة بن شعبة - رضي الله عنه -: "أن النبيّ - صلى الله عليه وسلم - كان إذا ذهب المذهب أبعد" (?)، والمذهب بالفتح: الموضع الذي يُتغوّط فيه.

[أجيب]: بأنه يَحْتَمل أن يكون - صلى الله عليه وسلم - مشغولًا في ذلك الوقت بأمور المسلمين، والنظر في مصالحهم، فلعلّه طال عليه الأمر، فأتى السباطة حين لم يمكنه التباعد، ولو تكلّف ذلك لتضرّر بحبس البول؛ قاله العينيّ.

وقال القاضي عياض رحمه الله: وأما سبب بوله - صلى الله عليه وسلم - في السباطة التي بقرب الدُّور مع أن المعروف من عادته - صلى الله عليه وسلم - التباعد في المذهب، أنه - صلى الله عليه وسلم - كان من الشغل بأمور المسلمين، والنظر في مصالحهم بالمحل المعروف، فلعله طال عليه المجلس حتى حَفَزَه البول، فلم يمكنه التباعد، ولو أبعد لتضرر، وارتاد السُّباطة لدَمْثِها، وأقام حُذيفة بقربه؛ ليستره عن الناس، قال النوويّ: وهذا الذي قاله القاضي حَسَنٌ ظاهرٌ. انتهى (?).

[فإن قلت]: روى أبو داود من حديث أبي موسى الأشعريّ قال: كنت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذات يوم، فأراد أن يبول، فأتى دَمِثًا في أصل جدار، فبال، ثم قال - صلى الله عليه وسلم -: "إذا أراد أحدكم أن يبول، فليرتدْ لبوله موضعًا"، فهذا يُخالف ما تقدّم.

[أجيب]: بأنه يجوز أن يكون الجدار هنا عاديًّا، غير مملوك لأحد، أو يكون قعوده متراخيًا عن جِرْمه، فلا يُصيبه البول، أفاده العينيّ رحمه الله (?).

قال الجامع عفا الله عنه: حديث أبي موسى - رضي الله عنه - المذكور ضعيف؛ لأن في سنده مجهولًا، وهو شيخ أبي التيّاح الضُبعيّ، فتنبّه، والله تعالى أعلم.

(فَبَالَ) النبيّ - صلى الله عليه وسلم - في تلك السباطة (قَائِمًا) حال من الفاعل، قال حذيفت - رضي الله عنه - (فَتَنَحَّيْتُ) أي تباعدت عن موضعه - صلى الله عليه وسلم - تأدّبًا معه على ظنّ أنه يَكرَه القرب منه في تلك الحالة كما هو العادة (فَقَالَ: ) - صلى الله عليه وسلم - ("ادْنُهْ") أي اقرب، وهو بضمّ النون فعل أمر من دنا يدنو، كغزا يغزو، والهاء للسكت جيء بها؛ لكون الفعل معتلًّا حُذف آخره للجزم، كما قال في "الخلاصة":

طور بواسطة نورين ميديا © 2015