واحتج من حَرَّم الاستقبال والاستدبار في الصحراء، وأباحهما في البنيان، بحديث ابن عمر - رضي الله عنهما - المذكور في هذا الكتاب، وبحديث عائشة - رضي الله عنها - الذي مرّ ذكره، وقد عرفت ما فيه.

وبحديث جابر - رضي الله عنه - قال: نَهَى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن نستقبل القبلة ببول، فرأيته قبل أن يُقْبَض بعام يستقبلها، رواه أبو داود، والترمذيّ، وغيرهما، وإسناده حسن.

وبحديث مروان الأصفر قال: رأيت ابن عمر - رضي الله عنهما - أناخ راحلته، مستقبل القبلة، ثم جلس يبول إليها، فقلت: يا أبا عبد الرحمن: أليس قد نُهِيَ عن هذا؟ فقال: بلى، إنما نُهِيَ عن ذلك في الفضاء، فإذا كان بينك وبين القبلة شيء يسترك فلا بأس، رواه أبو داود وغيره، وهو حديث حسن.

قال النوويّ - رَحِمَهُ اللهُ -: فهذه أحاديث صحيحةٌ مصرحةٌ بالجواز في البنيان، وحديث أبي أيوب، وسلمان، وأبي هريرة، وغيرهم وردت بالنهي، فيُحْمَل على الصحراء؛ لِيُجْمَع بين الأحاديث، ولا خلاف بين العلماء أنه إذا أمكن الجمع بين الأحاديث لا يصار إلى ترك بعضها، بل يجب الجمع بينها، والعمل بجميعها، وقد أمكن الجمع على ما ذكرناه، فوجب المصير إليه، وفرقوا بين الصحراء والبنيان من حيث المعنى، بأنه يلحقه المشقة في البنيان في تكليفه ترك القبلة، بخلاف الصحراء.

وأما من أباح الاستدبار، فيُحْتَجّ على ردّ مذهبه بالأحاديث الصحيحة المصرحة بالنهي عن الاستقبال والاستدبار جميعًا، كحديث أبي أيوب، وغيره. انتهى كلام النوويّ - رَحِمَهُ اللهُ -.

قال الجامع عفا الله عنه: قد تبيّن بما ذُكر أن المذهب المختار هو ما ذهب إليه مالك، والشافعيّ، وكثير من أهل العلم، وهو الفرق بين البنيان، والصحراء، فيجوز في البيان، ويحرم في الصحراء، وهذا هو الذي اختاره ابن المنذر - رَحِمَهُ اللهُ -، كما سبق في كلامه، وهو مذهب الإمام البخاريّ - رَحِمَهُ اللهُ - حيث قال في "صحيحه": "باب لا تُستقبَلُ القبلة بغائط أو بول إلا عند البناء، جدارٍ، أو نحوه"، ومذهب النسائيّ أيضًا، حيث قال في "المجتبى" بعد ذكر أحاديث

طور بواسطة نورين ميديا © 2015