وذهب بعضهم إلى الإباحة، قالوا: جاءت الأخبار في هذا الباب مختلفةً، ولا يُعْرَف ناسخها من منسوخها، فوجب إيقاف الخبرين، وحَمْلُ الأشياء على الإباحة التي كانت؛ لِعدم معرفة الناسخ من الخبرين.

وفَرَّقت فرقة بين استقبال القبلة، واستدبارها في الصحاري والمنازل، فنَهَت عن ذلك في الصحاري، ورَخَّصَت فيه في المنازل، رُوي هذا القول عن الشعبيّ، وبه قال الشافعيّ، وإسحاق بن راهويه، وحُكِي عن مالك هذا المعنى، حَكَى ابن القاسم عن مالك، أنه سئل عن استقبال القبلة للغائط: أترى البيوت مثل الصحاري؟ قال: لا، ولا أرى في البيوت شيئًا، وحَكَى عنه ابن وهب أنه قال: في البيوت أَحَبّ عندي.

واحتج من قال بهذا القول في النهي عن ذلك في الصحاري بخبر أبي أيوب الأنصاريّ - رضي الله عنه - الآتي، واحتج في الرخصة في ذلك في المنازل بحديث ابن عمر رضي - رضي الله عنهما - الآتي أيضًا.

قال ابن المنذر - رَحِمَهُ اللهُ - بعد نقل هذه المذاهب: وأصح هذه المذاهب مذهبُ مَنْ فَرَّق بين الصحاري والمنازل في هذا الباب، وذلك أن يكون ظاهر نهي النبيّ - صلى الله عليه وسلم - على العموم إلا ما خصته السنة، فيكون ما خصته السنة مُسْتَثنًى من جملة النهي، وإنما تكمن الأخبار متضادّةً إذا جاءت جملةٌ فيها ذِكرُ النهي يقابل جملةً فيها ذكر الإباحة، فلا يمكن استعمال شيء منها، إلا بطرح ما ضادّها، وسبيل هذا كسبيل نهي النبيّ - صلى الله عليه وسلم - عن بيع الثمر بالثمر جملةً، ثم رَخَّصَ في بيع الْعَرَايا بِخَرْصِها، فبيع العرية مستثنى من جملة نهي النبيّ - صلى الله عليه وسلم - عن بيع الثمر، وكذلك نهيه عن بيع ما ليس عند المرء وإذنه في السلم، وهذا الوجه موجود في كثير من السنن، والله أعلم.

فلما نَهَى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن استقبال القبلة بالغائط والبول نهيًا عامًّا، واستَقْبَل بيت المقدس، مستدبرًا الكعبة، كان إباحةُ ذلك في المنازل مخصوصًا من جملة النهي. انتهى كلام ابن المنذر - رَحِمَهُ اللهُ - (?).

طور بواسطة نورين ميديا © 2015