والى حشرات لا يسمى زاهدًا، وإنما يسمى زاهدًا من ترك الدراهم، والدنانير.
انتهى.
وقال ابن القيّم رحمه الله في "مدارج السالكين" (2/ 12): والذي أجمع عليه
العارفون أن الزهد سَفَر القلب من وطن الدنيا، وأخذه في منازل الآخرة، قال:
ومتعلّقه ستة أشياء لا يستحقّ العبد اسم الزهد حتى يزهد فيها، وهي المال،
والصُّوَر، والرئاسة، والناس، والنفس، وكلّ ما دون الله.
قال: وليس المراد رفضها من المُلك، فقد كان داود، وسليمان عليه السلام من
أزهد أهل زمانهما، ولهما من المال، والمُلك، والنساء ما لهما، وكان نبيّنا -صلى الله عليه وسلم-
أزهد البشر على الإطلاق، وله تسع نسوة، وكان عليّ بن أبي طالب،
وعبد الرحمن بن عوف، والزبير، وعثمان -رضي الله عنهم- من الزهاد، مع ما كان لهم من
الأموال، وكان الحسن بن عليّ -رضي الله عنهما- من الزهّاد، مع أنه كان من أكثر الأمة
محبّة للنساء، ونكاحًا لهنّ، وأغناهم، وكان عبد الله بن المبارك من الأئمة
الزهّاد، مع كثرة أمواله، وكذلك الليث بن سعد من الأئمة الزهاد، وكان له
رأس مال يقول: لولا هذا لتمندل بنا هؤلاء.
قال: ومن أحسن ما قيل في الزهد كلام الحسن، أو غيره: ليس الزهد في
الدنيا بتحريم الحلال، ولا إضاعة المال، ولكن أن تكون بما في يد الله أوثق
منك بما في يدك، وأن تكون في ثواب المصيبة إذا أصبت بها أرغب منك فيها
لم لو تصبك، فهذا من أجمع كلام في الزهد، وأحسنه، وقد روي مرفوعًا.
والحاصل أن حقيقة الزهد ليست منافية للأخذ بأسباب الدنيا، وإنما
حقيقته أن لا تتعلّق الأسباب بقلب العبد حتى تلهيه عن ذكر الله عزوجل، والدار
الآخرة، وأن يكون الإنسان إنما يؤثر نعيم الآخرة على نعيم الدنيا، ومن هنا
يفترق الزهد عن الرهبانيّة التي ابتدعها النصارى، فإن الرهبانية ترك أسباب
الدنيا بأسرها، والزهد ليس كذلك، وإنما هو أن تكون رغبة العبد في الآخرة
أكثر من رغبته في الدنيا، وأن لا تشغله أسباب الدنيا عن سعيه للآخرة، والله
تعالى أعلم (?).