وليُعلَم الفرق بين الاتباع والتقليد، فإن الأول الاقتداء عن جزم، ويقين،
وهو الذي أمر الله تعالى به من لا يعلم، فقال: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [النحل: 43]، ومن علامته أن المتبع إذا بُيِّنَ له أن العالم الذي أفتاه قد
أخطأ في هذه المسألة، يتركه، ويسأل من هو أعلم منه، وما هو الصواب
فيها، فيتبعه، ولا يعاند.
وأما التقليد فهو الأخذ بقول الغير، من غير معرفة دليله، بل هو مجرّد
اتباع للرأي المحض، سواء أصاب، أو أخطأ، ومن علامته أنه يعتقد أن خطأه
أفضل من صواب غيره، بدليل أنه إذا ذُكر له أن مقلّده مخطئ مخالف
للنصوص في هذه المسألة لا يتراجع عنه، بل يتمادى، ويعارض النصوص
بدعوى أن مُقلَّدَه أعلم من غيره بالنصوص، وهذه هي الطامّة الكبرى التي حلّت
بالمسلمين بعد القرون المفضّلة، ومن العجب العُجاب أن ترى هذه الصفة فيمن
ينتسب إلى العلم، بل ربما يدّعي معرفة الأحاديث، فإنا لله، وإنا إليه راجعون.
8 - (ومنها): أن الميت يحيا في قبره للمسألة؛ خلافًا لمن ردّه، واحتجّ
بقوله تعالى: {قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ} [غافر: 11]، قال: فلو كان
يحيا في قبره للزم أن يحيا ثلاث مرّات، ويموت ثلاثًا، وهذا خلاف النصّ.
والجواب عنه: أن المراد بالحياة في القبر للمسألة، ليست الحياة
المستقرّة المعهودة في الدنيا التي تقوم فيها الروح بالبدن، وتدبيره، وتصرّفه،
وتحتاج إلى ما يحتاج إليه الأحياء، بل هي مجرّد إعادة لفائدة الامتحان، الذي
وردت به الأحاديث الصحيحة، فهي إعادة عارضة، كما حيي خلق لكثير من
الأنبياء؛ لمسألتهم لهم عن أشياء، ثم عادوا موتى، والله تعالى أعلم.
(المسألة الخامسة): قال في "الفتح" ما حاصله: هل تختصّ مسألة القبر
بهذه الأمة، أم وقعت على الأمم قبلها؟ ظاهر الأحاديث الأَوّلُ، وبه جزم
الحكيم الترمذيّ، وقال: كانت الأمم قبل هذه الأمة، تأتيهم الرسل، فإن
أطاعوا، فذاك، وإن أبوا اعتزلوهم، وعوجلوا بالعذاب، فلما أرسل الله
محمدًا - صلى الله عليه وسلم - رحمة للعالمين أُمسك عنهم العذاب، وقُبل الإسلام ممن أظهره،
سواء أسرّ الكفر، أو لا، فلما ماتوا قيّض الله لهم، فَتَّاني القبر؛ ليستخرج