(وَإِنَّ اللهَ أَمَرَنِي أَنْ أُحَرِّقَ) من التحريق، أو الإحراق؛ أي: أُهلك
(قُرَيْشًا)؛ أي: مشركهم.
وقال القرطبيّ -رحمه الله-: قوله: "أن أحرّق قريشًا"؛ أي: أُغيظهم بما أُسمعهم
من الحقّ الذي يخالف أهواءهم، ويؤلم قلوبهم بعيب آلهتهم، وتسفيه أحلام
آبائهم، وقتالهم، ومغالبتهم حتى كأني أحرق قلوبهم بالنار، ولا يصحّ أن
يُحمَل ذلك على حقيقته؛ لأنَّ النبيّ -صلى الله عليه وسلم- لم يصحّ عنه أنه حرّق أحدًا من قريش
بالنار، بل قد نهى عن التعذيب بالنار، وقال: "لا يعذب بالنار إلا الله" (?).
(فَقُلْتُ: رَبِّ) بحذف حذف النداء؛ أي: يا ربّ (إِذًا) منوّنًا بتنوين
العوض، إذ أصلة: إذا حرّقتهم، (يَثْلَغُوا) بفتح أوله، وثالثه، وبالثاء المثلثة؛
أي: يشدخوه، ويشجّوه، كما يُشدخ الخبز؛ أي: يكسر، والمعنى: أنهم
يَشدخون، ويكسرون (رَأْسِي، فَيَدَعُوهُ) بفتح حرف المضارعة، والدال؛ أي:
يصيّروا رأسي (خُبْزَةً)؛ أي: فيتركوه بالشدخ بعد الشكل الكرويّ مصَفّحًا
مثل خبزة.
وقال القرطبيّ -رحمه الله-: قوله: "إذًا يثلغوا رأسي، فيدعوه خبزةً" الرواية
الصحيحة المشهورة بالثاء المثلثة، والغين المعجمة، ومعناه: يشدخوا، قاله
الهرويّ، وقال شَمِر: الثلغ: فَضْخَك الشيءَ الرطب باليابس، وقد رواه
العذريّ: "فقلعوا" -بالقاف، والعين المهملة- ولا يصحّ مع قوله: "فيدعوه
خبزة"، ومعنى هذا أنه شبّه الرأس إذا شُدخ بالخبزة، إذا شُدخت لتُثْرَد.
قلت (?): وهذا الذي قاله النبيّ -صلى الله عليه وسلم- من نحو ما قاله موسى -عليه السلام- حين أُمر
بتبليغ الرسالة إلى فرعون فـ {قَالَ رَبِّ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ (12) وَيَضِيقُ صَدْرِي وَلَا
يَنْطَلِقُ لِسَانِي فَأَرْسِلْ إِلَى هَارُونَ (13) وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ (14)} [الشعراء:
12 - 14]، فهذا صريحٌ في أنهما خافا غير الله، وحينئذ يعارضه قوله تعالى في
صفة الرسل: {الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ}
[الأحزاب: 39]، وهذا نصّ في أن الرسل لا تخشى إلا الله، وهذا هو المناسب