أما ما كان لازمًا كالكفر والشرك، فإن أثره لا يزول كما لا يزول السبب، وقد

أشار الله تعالى إلى ذلك، فقال: {وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ} [الأنعام: 28]

إخبارًا بأن نفوسهم وطبائعهم لا تقبل غير الشرك، وإنها غير قابلة

للإيمان أصلًا، قال تعالى: {وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ

سَبِيلًا (72)} [الإسراء: 72]، فأخبر أن ضلالهم عن الهدى دائم لا يزول مع

معاينتهم الحقائق التي أخبرت بها الرسل، وقال: {وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا

لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ (23)} [الأنفال: 23] فهذا يدلك على أنه

ليس فيهم خير يقتضي الرحمة، ولو كان فيهم خير لَمَا ضيّع عليهم أثر، وهو

يدل على أنه لا خير فيهم هنالك أيضًا.

وأجاب بقوله: لَعَمْر الله إن هذا أقوى ما يُتمسك به في هذه المسألة،

ولكن هل هذا الكفر والخبث والتكذيب أمر ذاتي لهم زواله مستحيل، أم هو

أمر عارض طارئ على الفطرة، قابل للزوال؟ وليس بأيديكم ما يدل على

استحالة زواله، وأنه أمر ذاتي قد أخبر الله أنه فطر عباده على الحنفية، وأن

الشياطين اجتالتهم عنها، فلم يفطرهم على الكفر والتكذيب، وإنما فطرهم على

الإقرار بخالقهم، ومحبته، وتوحيده، وإذا كان هذا الحق الذي فُطروا عليه قد

أمكن زواله بالكفر والشرك كان زوال الكفر والشرك بضده أَولى وأحرى، ولا

ريب أنهم لو رُدّوا على تلك الحال لعادوا لِمَا نهوا عنه، لكن من أين لكم أن

تلك الحال لا تزول، ولا تبدل بنشأة أخرى ينشؤهم عليها تبارك وتعالى؟

أقول: قد دار جواب هذا الإيراد، والذي أقر أنه من أقوى ما يتمسك به

المخالف على أن الكفار مخلوقون على الفطرة؛ أي: فطرة الدين الحنيف،

وهو التوحيد، وقد سمعت من حديث ابن عباس، وابن مسعود، وغيرهم أنها

لم تشملهم الفطرة، ولا وقع منهم الإقرار بالوحدانية في عالم الذر إلا تقية.

ثم هب أن الفطرة شاملة لبني آدم، كما قال تعالى: {لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ

الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} [هود: 119]، والفطرة إنما هي للناس، كما في الآية

والحديث: "إنهم خُلقوا حنفاء، فاجتالتهم الشياطين"، فإن ساعدناه على أن

الناس مفطورون على التوحيد فما يصنع بالجن والشياطين، وهم من جملة من

تفنى عنهم النار، ويدخلون الجنة؟ أيزعم أنهم مفطورون على التوحيد مخلوقون

طور بواسطة نورين ميديا © 2015