وروى ابن أبي حاتم من طرُق أخرى، عن جماعة من التابعين نحو ذلك،
ورجّحه الطبريّ، ولا مانع أن تكون نزلت في كل ذلك، أو نزلت في أشياء
خاصّة، وعمومها يتناول كل من أتى بحسنة، ففرح بها فرح إعجاب، وأحب
أن يَحمده الناس، ويُثنوا عليه بما ليس فيه، والله أعلم. انتهى (?).
وفاعل "نزلت" قوله: "لا تحسبنّ الذين ... إلخ"، لِقَصْد لفظه، فهو
محكَيّ.
({لَا تَحْسَبَنَّ}) قرأ الكوفيون بالتاء الفوقية، والخطاب لرسول الله -صلى الله عليه وسلم-،
أو لكل من يصلح له، وقرأ نافع، وابن عامر، وابن كثير، وأبو عمرو: "لا
يحسبنّ" بالياء التحتية؛ أي: لا يحسبن الفارحون فرحهم منجيًا لهم من
العذاب، فالمفعول الأوّل محذوف، وهو فرحهم، والمفعول الثاني {بِمَفَازَةٍ مِنَ
الْعَذَابِ}. ({الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا})؛ أي: بما فعلوا من إضلال الناس، قرأ
جمهور القراء السبعة، وغيرهم: {أَتَوْا} بالقصر، وقرأ مروان بن الحكم،
والأعمش، وإبراهيم النخعي: "آتوا" بالمد؛ أي: يفرحون بما أعطوا.
({وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا}) بالبناء للمفعول، ({بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا}) من التمسّك
بالحقّ، وهم على ضلال، ({فَلَا تَحْسَبَنَّهُمْ}) بالتاء الفوقيّة، والياء التحتيّة كما
سبق آنفًا. ({بِمَفَازَةٍ})؛ أي: بمكان ينجون فيه ({مِنَ الْعَذَابِ}) في
الآخرة، بل هم في مكان يُعذّبون فيه، وهو جهنّم.
وقد اختلف في سبب نزول الآية، كما سيأتي، والظاهر شمولها لكل من
حصل منه ما تضمنته عملًا بعموم اللفظ، وهو المعتبَر دون خصوص السبب،
فمن فرح بما فعل، وأحب أن يحمده الناس بما لم يفعل، فلا تحسبنه بمفازة
من العذاب.
وقوله: {فَلَا تَحْسَبَنَّهُمْ} تأكيد للفعل الأوّل على القراءتين، والمفازة:
المنجاة، مفعلة من فاز يفوز إذا نجا؛ أي: ليسوا بفائزين، سمِّي موضع الخوف
مفازة على جهة التفاؤل. قاله الأصمعي. وقيل: لأنها موضع تفويز، ومظنة
هلاك، تقول العرب: فوّز الرجل إذا مات. قال ثعلب: حكيت لابن الأعرابي